في الذكرى الثامنة لرحيله.. نافذة على شعره السياسي مقاوماً تقسيم حضرموت في زمنين من يقول للسلطة والحكومة «لا..لا..لا» بعد المحضار؟!

> «الأيام» رياض عوض باشراحيل:

> الشاعر الكبير حسين أبوبكر المحضار أحد الرموز الشعرية وأعلام الشعر الغناني في اليمن، جدد فنه الغنائي وطوره باقتدار، فانتشرت أعماله الغنائية في الحواضر والبوادي، وغزت مشاعر وقلوب الناس في وطنه وخارج وطنه في أقطار وطننا العربي كافة، وأضحى المحضار - عليه رحمة الله - أحد الرموز الإبداعية في ساحة الغناء العربي. نظم الشاعر خلال مسيرته الفنية القصيدة في مختلف أغراضها الوجدانية والوطنية والاجتماعية والسياسية. وفي الذكرى الثامنة لرحيله ندلف إلى عالم الشعر السياسي عند المحضار.

والشعر السياسي هو الشعر الذي يعكس أوضاع المجتمع وتأثير السياسة فيه، وواقع السلطة الحاكمة في الوطن، وأثر ممارساتها ومنهجها وقراراتها على مجريات الحياة فيه، وسياستها داخل الوطن وخارجه.

لقد تسربت أخبار في نهاية السبعينات من أروقة الحكومة والسلطة الحاكمة قبل الوحدة، مفادها أن قضية تقسيم حضرموت إلى محافظتين طرحت للنقاش، وتم التحاور فيها ومناقشتها في إطار غير علني، ضمن مناقشة التقسيم الإداري لمحافظات جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وأفضت المناقشات إلى عدم اتخاذ قرار بالتقسيم وبقاء حضرموت كما هي كياناً موحداً، ولعل هذه الميزة تعد من الإيجابيات القليلة للنظام الحاكم قبل الوحدة.

وقد نما إلى علم المحضار هذا الخبر وهو المتابع لخفايا ما يدور في دهاليز السياسة آنذاك، فنظم قصيدته الغنائية «لا لا.. لا تلقي لها سوم»، وكانت القصيدة رد فعل شعري قوياً ومباشراً على الحدث، وفي ذلك المناخ السياسي وصل الرئيس السابق علي ناصر محمد إلى الشحر في العام 1979م للمشاركة في احتفالات ذكرى المقاومة الشعبية ضد الغزو البرتغالي الآثم على مدينة الشحر، وفي الحفل الفني الساهر أنشد بلبل الشحر وصوتها الدافئ الفنان محفوظ بن بريك أمام الرئيس علي ناصر أغنية المحضار الجديدة «لالا.. لا تلق لها سوم»، وهي في الأصل رسالة المحضار الصريحة إلى القيادة السياسية، وصرخته التي تعبر عن رفض تقسيم حضرموت إلى محافظتين رفضاً قاطعاً، لأن هذه الخطوة تشكل انتفاضاً على التاريخ والأصالة والعرف والتقاليد، وفاتحة شر على حضرموت الخير، إذ إن وحدة حضرموت تعد من دعائم النمو والرقي والقوة للوطن، وكانت تلك الرسالة السياسية هي رسالة أبناء حضرموت جميعاً، حملها المحضار على كاهله وعبر عنها نيابة عن أمته وأبناء مجتمعه، قائلاً:

لا لا.. لا تلقي لها سوم قدها سومها الجبل

لا لا.. لا ماهي من اليوم تلقى من زمن عمل

من جاء منها أكل الشيبان والسّقل

والغربان والعول لا قد قال ياحول

إن شي بات بالوسل مكّن به ضميرك

لا قد قال ياحول

لقد برع المحضار في استهلال قصيدته الغنائية بالتعبير عن موقفه من القضية، من خلال بيتها الأول «لالا.. لا تلقي لها سوم، قدها سومها الجبل»، ونجح في التعبير عن غضبه مما يجري ويحاك في السر، وإعلان موقفه المقاوم والرافض من خلال «اللاءات»المتعددة التي تصدرت ذلك الميت!!.. بيت واحد سرى في مضمونه القيم والمثل، ولخص المعاني والأهداف التي عبرت عنها قصيدة بأكملها.

لقد صور المحضار حضرموت واحة خصبة وحديقة غناء منذ فجر التاريخ، تزرع الغذاء والخضرة والخير للإنسان والحيوان، وهي أرض معطاءة، ما وفد إليها جائع إلا ونال من ثمارها اليانعة وأعطته من خيرها بسخاء، وما وصل إليها صادياً إلا ونهل من مواردها العذبة شراباً سائغاً يروي العطشان. ويؤكد المحضار أن الحديقة الغناء لا يفصلها عن غيرها من محافظات الوطن سوى الجبل الذي يعد من حدودها الطبيعية التي تمتد من البحر إلى الجبل، أي من الساحل إلى الداخل، لذلك فهو يرفض التقسيم والتمزيق رفضاً قطعا، ويدين إنشاء «السوم» أي الحاجز الذي سيشطرها إلى شطرين.

فالحديقة الغناء التي وصفها المحضار دون أن يسميها هي المعادل الموضوعي والصورة الرمزية لحضرموت. وهذه الصورة استشفها الشاعر من محيطه وبيئته الطبيعية، وهي تتماهى مع حقيقة الواقع وتعبر عنه بدقة، فحضرموت أرض الخضرة والزراعة والخير، وقد سميت إحدى مدنها الرئيسية بـ«الغناء»، وهي تمتلئ بالوديان الخصبة، كأودية سر، وسمعون، ودوعن، التي اعتبرها المؤرخان الهولندي (فاندرميولين)، والألماني (د.فون) في كتابهما «حضرموت.. إزاحة النقاب عن بعض غموضها» بأنها «جنة منسية».

وفي ضوء ذلك فإن المرء يتساءل عن سر التفكير في تجزئة الأرض الواحدة، والأهداف المرجوة من وراء هذا التقسيم لجغرافية حضرموت وإنسانها؟! ولا شك أنها أهداف سياسية آنية وأهواء ضيقة الأفق كانت وراء ذلك التفكير، لا تمت للخير والوحدة والقوة والسيادة والمصـلحة الـوطنية العـليا بصـلة.

ويواصل المحضار تفاعله مع قضية وطنه والتعبير عن أفكاره وموقفه الرافض من خلال نبرته العالية، واللاءات التي يتصدر بها موقفه المعلن الذي لا لبس فيه، وملامح الصور الفنية التي بنى من مفرداتها قصيدته، فهذا الانفعال الذي فجره الشاعر منذ بداية النص جسد قيمة الرفض، ثم كشف عن مساوئ التمزق وأضرار التقسيم، من خلال دلالة الصورة الرمزية في قوله:

لا لا.. ماباها كما العوم يبقل وسطها الهمل

لا لا.. لا علبه لقى دوم لا ميدعه فيه خل

بعد العشر والكيل حراثه من البصل

مارد قيمة النول لا قد قال ياحول

ولا يزال يرفع الشاعر راية الرفض ويعلي من شأن مقاومة التجزئة، ويستمر في الجنوح إلى التنفير من التقسيم، وكأنه يريد من السلطات الإحجام عنه وعدم التفكير فيه بعد ذلك اليوم في هذا العصر أو في أي عصر قادم، لأنه من سمات الركاكة والضعف والإهمال، فتصبح الحديقة الغناء والبستان المثمر كـ «العوم»، وهو حقل زراعي مهمل «يقع في قرية تيالة، وهي إحدى القرى التابعة للشحر» لا ينظر منه نفع ولا ترجى منه فائدة، فهو كوم من الرمل أو الطين ممتلئ بالطفيليات والأوساخ والنباتات الضارة، إذن العوم هو الصورة السلبية القاتمة التي يرفضها المحضار.

ومثلما نفر الشاعر من التقسيم بإبراز التضاد والمفارقة بين «الحديقة الغناء» الصورة الرمزية لحضرموت الموحدة، و«العوم» الصورة الرمزية لحضرموت في حال التقسيم، فهو لا يزال يرفع سقف المعارضة والسير على خطى التنفير من التجزئة، فيكشف مرة ثانية عن المفارقة من خلال المقارنة بين الماء العذب الزلال النابع من «الغناء» والكوم من الطين الممتلئ بالأوساخ والطفيليات النابع من «العوم» فيقول:

لا لا.. لا تغرف من الكوم فيه الزبر والطفل

لا لا.. لا كهره ولا حوم فيه إلا ندى وطل

ماءها يشفي العلل كحل منه العقل

وأملي منه الشول لا قد قال يا حال

ويخاطب الشاعر القيادة السياسية للوطن معبراً عنها بالرمز الشعري «دباسة العسل»، واصفاً إياها بـ«خيرة القوم»، وهو يريد من هذا الوصف أن يقول للقيادة إن الأخيار هم عبيد شعوبهم، يسهرون ويتعبون لخدمة مجتمعاتهم وتلبية مطالب أمتهم وتقوية وحدتهم لا تمزيقها، لتحقيق النمو والازدهار والرفعة لأوطانهم، لذلك فعليكم خدمة هذا الشعب بالجد والعمل على تحقيق آماله في وحدة أرضه، لا بالكسل والنوم، الذي يقود إلى الخصام والانقسام والصراع والتجزئة، ومن يعمل لأمته بإخلاص وصدق لابد وأن يصل ويبلغ الغاية والهدف:

لا لا.. لا يا خيرة القوم من دباسة العسل

لا لا.. لا ما نشتهي النوم به بانشتري الزعل

كل من حمّل الجمل عامو عدة بايصل

ما بايبات عالجول لا قد قال ياحول

والجمل هنا هو رمز للشعب اليمني الصبور ذي البأس الشديد، فهذا الشعب الصامد سيحقق غاياته في النمو المنشود، ويحقق أهدافه في التطور الاجتماعي إذا حملته السياسة في حدود طاقاته ولم تكلفه مالا يحتمل، كما هو حالنا مع السياسة بالأمس واليوم.

ولا تخفى قوة الرفض والاحتجاج ومقاومة تقسيم حضرموت من خلال إرادة التحدي عند الشاعر، والتي تبرزها دلالة التكرار المنتظم على مدار القصيدة كلها والتأكيد اللفظي لأداة النهي«لا..لا..لا».

لقد سكنت هذه الأغنية قلوب الجماهير فاحتضنتها بحب وعشق، ورددتها الألسن في حينها ليل نهار، لأنها عبرت عن مكنونات مشاعرهم ونطقت بما لا تستطيع الجماهير في ذلك الزمن أن تنطق به، سارت بها الركبان في الحل والترحال، وسار مطلعها «لالا.. لا تلقي لها سوم» مسير الأمثال والحكم السيارة، يقفز إلى الذاكرة وتستشهد به الناس في أحاديثها ورجالات الصحافة في كتاباتها، عندما تريد التحذير أو التنبيه إلى خطأ أو خطر ما، ونتذوقها -نحن الجماهير- عندما يبرز في الواقع موقف مشابه أو يعيد التاريخ نفسه، وتظهر ظروف اجتماعية كتلك الظروف التي فجرت ميلاد هذه القصيدة، كما حدث بعد الوحدة عام 1996م. ومم لا شك فيه أن هذا النص الشعري.

يمتلك أيضاً قيمة تاريخية واجتماعية ومكانة فكرية وسياسية، لما يتضمنه من القيم الوطنية والموقف الصادق والأهداف السامية، في الخروج من الصمت ومقاومة السلطة بالموقف المعارض والرفض واللاءات في زمن لا يسمح فيه بالمعارضة ولا بالرأي الآخر أن ينبس ببنت شفة، وهنا يكمن سر التعبير الرمزي وضرورته عند الشعراء في الشعر السياسي على مر العصور، كما يمتلك النص الشعري قيمة فنية عالية، لأن الشاعر وظف أدواته باستخدام التاريخ واللغة الحية والصور الموحية والرمز الشعري، بعيداً عن الخطابة والمباشرة الشائعة في الشعر السياسي.

ولا عجب في ذلك، فالمحضار هو الشاعر الوحيد في عصره الذي استطاع باقتدار أن يحول السياسة إلى شعر وفن، والشعر والفن إلى سياسة.

وإذا كان من صفات النظم الاستبدادية أن تمنع على شعوبها الدفاع عن حقوقها ومصالحها ونقد الواقع وتصحيح أخطائه، فهل يعقل أن يحجر على هذا الشعب الحراك الشعبي السلمي في التعبير عن نقده للواقع ورفضه لمظاهر الفساد العام ونحن نعيش في عصر الديمقراطية التي نزهو بها، وزمن القرية الواحدة؟ ترى لو أن المحضار مازال على قيد الحياة وشاهد واقعنا اليوم وعايش مستنقع الفساد الذي يستحم فيه رجال المناصب والمسؤولون في الدولة.. ماذا سيقول؟!

وكيف سيعبر عن هذا الواقع السيء، الذي انتفع به المدراء والمسؤولون وأصحاب المال، وتضرر منه كافة أبناء الشعب؟

لقد عبر المحضار عن هذا المشهد منذ نحو (29) عاما وكأنه يعيش معنا اليوم، استشرف واقعنا اليوم وعبر عنه منذ ذلك الزمن، عبر عن حق الشعب في التعبير عن رفضه للواقع ونقده للأخطاء الاجتماعية والسياسية وتطلع للإصلاح الحقيقي، وتأييده للحراك السلمي للجماهير في المطالبة يحقوقها، فأطلق صرخته معبراً عن حقوق الشعب وناقداً للسلطة والحكومة قائلاً:

لي عنده النقد مثل الخبز في يومه

يتقبل النقد أنه شر وإلا خير

أنا كلمتي عند كل الناس مسموعة

ما معي مسدس ولا آلي ولا بوسير

هذا هو موقف المحضار من النضال السلمي للشعب، حاثا السلطة على قبوله لا رفضه، والعمل لتحقيق ما يناضل الشعب من أجله لا ما يناضل اللصوص لنهبه، وإيقاف المخلين بالنظام والقانون، والمخلين بقضايا الناس ومصالحهم عند حدهم خدمة للسلم الاجتماعي والمصالح الوطنية العليا.. والشاعر هنا لا يدافع عن قضية خاصة به، بل القضايا الوطنية العامة هي المحرك والمثير لهذا الشعر.

وهي رسالته في فنه الملتزم بالحقيقة والصدق، وبقضايا شعبه في مواجهة السلطة، وإصلاحها هو الغاية.

لقد رأينا هنا كيف رفض المحضار تقسيم حضرموت وقاومه في زمن التشطير، لنرى في الحلقة الثانية كيف رفض المحضار تقسيم حضرموت وقاومه في زمن الوحدة. رحم الله المحضار رحمة واسعة. لقد كان بحق ضمير شعبه وصوته المعبر عن آماله وتطلعاته في أحاك الظروف.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى