> «الأيام» محمد الحيمدي :

بعض منازل غيمان المتواضعة الشاهدة على فقر أهلها وبؤسهم
بعض منازل غيمان المتواضعة الشاهدة على فقر أهلها وبؤسهم
منطقة غيمان تقع في مديرية (جُبَن) إحدى مديريات محافظة الضالع في التقسيم الإداري الجديد، منذ تأسيس المحافظة عام 1998م، وكانت قبل ذلك تتبع إدارياً محافظة البيضاء.

تتناثر منازلها المتواضعة المبنية من الحجارة فوق جبال عالية وعرة.. وبين ثنايا طبيعة قاسية صعبة تعيش هذه المنطقة، في ظروف لا تختلف كثيراً عن تلك الظروف إبان الحكم الإمامي قبل الثورة.. فهي تفتقر إلى أبسط المشاريع والخدمات الحياتية العادية.. المعاناة تغوص وتتوغل في نفوس ووجوه الأطفال قبل الكبار، لترسم على وجوههم ملامح مغيرة ومحولة جمال وبراءة الطفولة إلى آلام وأحزان غائرة، مكبوتة لايستطيعون البوح بها والتعبير عنها، لشدتها وقساوتها وتراكمها فوق كاهلهم أعواماً عديدة .

«الأيام» كان لها السبق في الغوص في واقع هذه المنطقة، لتكتشفه وتنقله في صور حية وسطور قليلة، لعل وعسى أن تجد آهات ومعاناة وأوجاع هذه المنطقة منفذاً إلى الجهات المعنية، حتى وإن كان هذا المنفذ بمقدار خرم إبرة .

فإلى ما تحمله هذه السطور وتنطق به الصور.

صور من المعاناة تتجسد في واقع المنطقة

(غيمان) تلك المنطقة المبنية منازلها المتواضعة من الحجارة السوداء المنحوتة من جبالها السمراء الشامخة، التي يقوم رجالها وشبابها وأطفالها بالتعاون جميعاً على استخراجها (نقوشتها) من هذه الجبال بأدوات بسيطة قديمة يصنعونها غالباً بأنفسهم، ثم يقومون بحملها إلى أماكن إقامة المنازل فوق ظهور الحمير، ليقوم مجموعة من البنائين بعملية البناء، والبقية يقومون بمساعدتهم، أي أن بناء المنازل يعتمد على هذا التعاون والتكافل الاجتماعي، وهي غالباً ما تتكون من غرفة أو غرفتين ومقيل (ديوان) ومطبخ (ديمة)، ولاتزال (المطبنة) المافي، والمصعد هي الأدوات الأساسية في طهي الطعام، ويكون في المنزل حمام داخلي للاغتسال فقط، وحمام خارجي يبعد عدة أمتار عن المنزل، وهذا الحمام يسمى الشمسي، أي أنه يعتمد على الشمس في إزالة الفضلات الآدمية دون استخدام المياه، وهذه الحمامات هي طريقة مثلى للمحافظة على الماء، الذي يعد أرفع سعراً من البترول والديزل في المنطقة.. نعم إن واقع وظروف هذه المنطقة المأساوية والصعبة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنها لاتزال تغوص في بركة، بل في بحر من النسيان والإهمال.. أهاليها يكابدون مرارة وقساوة الحياة يومياً، بل في كل ساعة وحين، يعتمدون أساساً على الأعمال الصعبة والشاقة، كتكسير الأحجار وقلب التربة، وأعمال البناء التي مارسها الإنسان اليمني قبل عشرات السنين قبل اختراع الآلة، وكحمل الصخور وحفر الآبار واستصلاح الأراضي، هذه الأعمال الشاقة تثقل كاهل المواطن وتزيد مشقتها إن مارسها أبناء هذه المنطقة خارج منطقتهم في مناطق وقرى نائية في مديرية جبن ومختلف مديريات المحافظة، بل وفي مناطق وقرى محافظات أخرى، بعيدين عن أطفالهم وأهاليهم ومنازلهم، هذا البعد والفراق يستمر شهوراً، وكذا يعمل أبناء هذه المنطقة على رعي وتربية الأغنام والزراعة وبيع القات والتجارة البسيطة في سبيل توفير لقمة العيش لهم ولأطفالهم.

ينقلون المواد الغذائية على ظهور الحمير
ينقلون المواد الغذائية على ظهور الحمير
بئر واحدة ملأى بالجراثيم والطفيليات

وأما عن عصب الحياة (الماء) فحدث ولا حرج ، فالمنطقة تعتمد اعتماداً كلياً على مياه بئر واحدة، بناها الأجداد منذ عدة سنوات، ملأى بجميع أنواع الديدان الخيطية والشريطية وأنواع الطفيليات المرئية وغير المرئية، ولقلة ما بجوف هذه البئر من مخزون مياه الشرب، فإن الماء يوزع للأهالي حسب عدد أفراد الأسرة، حيث توزع لكل ثلاثة أفراد دبة واحدة سعة 5 لتر، وهذه البئر تبعد عن المنازل بـ 3كم تقريباً، فالمياه تجلب إلى المنازل على ظهور الحمير وأكتاف الرجال والشباب ورؤوس النساء .. الشاب وليد أحمد منصر الغيماني ذو الثلاثة عقود من الزمن، ملامح وجهه الحزينة وتقسيمات جسده الهزيل يعكسان بصدق معاناة وبؤس هذه المنطقة، شاب يحمل في داخله كل هموم ومأساة أبناء منطقته (غيمان)، شاب مثقف يعد من بين قلة من شباب القرية الذين نالوا شهادة الثانوية العامة، ولكن يطمح ويصبو لاستكمال دراسته الجامعية، لكن ظروف أسرته المادية القاهرة جعلته يعمل في بيع القات في سوق العوابل بمديرية الشعيب، ليعيل أسرته الفقيرة كثيرة العدد.. كان الشاب وليد دليل رحلتنا إلى (غيمان)، وبوصلة طريقنا، بل هو صاحب فكرة دعوة «الأيام» لنقل معاناة وهموم هذه المنطقة، يحدثنا وليد بصوت حزين وابتسامة عريضة ولدتْ من رحم المعاناة والبؤس، كتعبير عن عمق ومدى حبه لصحيفة «الأيام»، معطياً لمحة انطباعية عن الواقع المعيش والمعاناة واحتياج المنطقة إلى المشاريع قائلاً : «إن منطقتنا لم تلامس أي نوع من الخدمات والمشاريع البسيطة قبل الثورة وبعد الثورة، وأثناء بزوغ فجر الوحدة اليمنية استبشرنا خيراً بهذا المنجز الوطني العظيم، ولكن ذلك زاد الطين بلة، والغبن صار غبنين، لأننا لم نلمس أي مشروع يتحقق لنا، بل نرى مشاريع في قرى قريبة من قريتنا ونحن نحرم من هذه المشاريع، ومناشدتنا وآهاتنا واستغاثاتنا لكل الجهات المعنية للالتفات إلى ما نعانيه لم تجد المجيب والاستجابة، وحالنا كقول الشاعر :

وكذلك المياه تنقل على ظهور الحمير
وكذلك المياه تنقل على ظهور الحمير
لقد أسمعت لو ناديت حياً

ولكن لا حياة لمن تنادي

فقد كلت وأنهكت كل قوانا في متابعة السلطات المحلية، بأن تمنحنا ولو مشروعاً واحداً للمياه، ولكن كل تلك المناشدات ذهبت أدراج الرياح»، وأضاف:«إن أهالي المنطقة أصبحوا في وضع مأساوي وحالة يرثى لها،كونهم يعتمدون على (بئر) وحيدة في الشرب وطهي الطعام وغيرها من استخدمات الماء اليومية، وهي مياه ملوثة ومملوءة بالجراثيم والطفيليات»، وقال أيضا:«إن نسبة الإصابة بالأمراض الباطنية وتحديداً البلهارسيا بين أوساط الأهالي والأطفال تزداد يوماً بعد يوم، هذا الأمر يزيد من هم وتضييق الخناق على المواطن الفقير، الذي لا يجد سوى اعتماده على ما يملك من قطعة أرض زراعية صغيرة تعتمد في ريها على الأمطار الموسمية، التي إذا شحت كانت حصيلة هذه الأرض دون جدوى، وكذا رعي وتربية الأغنام والأعمال اليومية الشاقة ليوفر ما يسد به رمقه ورمق أطفاله»، مواصلاً حديثه بالقول:«فوق هذا وذاك، فالمنطقة لا يوجد فيها وحدة صحية، وأصبحت حياة من يمرض فيها معلقة بحبل الموت، وذلك كون المنطقة محرومة من وجود طريق فيها، وبالتالي صعوبة إنقاذ حياة المريض وإيصاله حياً إلى مستشفى عاصمة المديرية، التي تبعد عن المنطقة بأكثر من 11كم». معتبراً في حديثه «أن الطريق الحالية قديمة ومتهالكة، وهي خلاصة جهد ومكابدة الآباء التي رسموها بمقايس إطارات سياراتهم، وأصبحت اليوم المسلك اليومي لنا إلى عاصمة المديرية لجلب احتياجاتنا الضرورية، كالمواد الغذائية ومواد البناء وغيرها»، مستطرداً حديثه: «إن معاناة هذه الطريق تزداد في كونها تنقطع عند مسافة 3 كيلومترات عن المنازل، الأمر الذي يجعلنا ننقل هذه المواد إلى المنازل فوق ظهور الحمير وظهورنا، كما أن هذه الطريق جعلت كل من يرغب بشراء سيارة أن يفكر ألف مرة قبل الإقدام على هذا الأمر الذي يعد مجازفة، خوفاً على حياته وعلى سيارته من هذه الطريق التي تحطمها وتخرجها عن الجاهزية وعن عمرها الافتراضي بعدة سنوات، لذلك فإن المنطقة فيها سيارة واحدة نوع شاص، وهي الوسيلة الوحيدة التي يستخدمها جميع الأهالي لإسعاف مرضاهم إلى عاصمة المديرية، وجلب حاجاتهم من المواد الضرورية للحياة، وهم يكابدون جراء ذلك الكثير.. ومما يزيد من هذه المكابدة وعورة الطريق كما أسلفنا، فالسيارة تنطلق من المنطقة الساعة السادسة صباحاً لتصل إلى المديرية الساعة 12 ظهراً، وقد أغلقت المكاتب الحكومية لمن يقصد أبوابها، وكذا بعض المحلات والدكاكين».

خمسة طلاب نالوا الشهادة الثانوية

أما عن التعليم، فيقول: «إنه لا يقل مأساة عن أي جانب آخر، فالمنطقة فيها مدرسة واحدة تفتقر إلى الكثير من المدرسين، وصفوفها من 6-1 فقط، ومن يريد مواصلة الدراسة في المستوى الأساسي والثانوي فعليه أن يقطع أكثر من ستة كيلو إلى مدينة (الربيعتين) لوجود المدرسة الأساسية والثانوية فيها، فكان الطلاب يقطعون هذه المسافة راجلين، إلا أنهم مع الأيام كلوا وخارت قواهم، لاسيما وأن هذه الطريق محفوفة بالمخاطر، ونتج عن ذلك أن كان عدد الخريجين في الثانوية العامة خمسة طلاب فقط ممن ساعدتهم ظروفهم المادية على ذلك، أو ممن لهم أقرباء في العاصمة ليسكنوا معهم في منازلهم، أما جميع شباب القرية فحاصلون على شهادة الصف السادس فقط».

البئر الوحيدة التي يشرب منها الأهالي والتي حفرها الأجداد منذ سنوات عدة
البئر الوحيدة التي يشرب منها الأهالي والتي حفرها الأجداد منذ سنوات عدة
القرية تعيش في ضوء الفوانيس!

أما عن الكهرباء فيقول:«إن المدينة تعيش في ظلام دامس، ويعتمد الأهالي على الفوانيس والنوارات في الإضاءة، فبرغم متابعاتنا المتكررة للجهات المعنية لتوفير هذا المشروع، إلا أنه لم يتحقق، غير أنهم منحونا بضعة أعمدة خشبية وشدة أسلاك كهربائية تركت في العراء منذ عدة سنوات، وأصبحت شبه منتهية نتيجة تأثير عوامل التعرية عليها».

واختتم بالقول:«هذه الأسباب وغيرها كثير جعلت العديد من الأسر تنزح إلى العاصمة ومدن أخرى خارج المديرية، خوفا من الموت والهلاك».

الأهالي يئنون من المعاناة، فأين الجهات المعنية؟!

لقد تلاشت جميع الآمال والأحلام في مستقبل وحياة أفضل في ظل هكذا حياة مؤلمة وقاسية، فالمعاناة تزداد وتتجدد، والآمال تتبدد، ومناشدات واستغاثات الأهالي لا تجد من يستجيب لها من قبل السلطات، فهم يشكون من عدم تجاوب السلطات المختصة لمطالبهم، وكأن موقعهم ليس ضمن خارطة اليمن، وكأن هذه السلطات، لا تسمع، لا ترى، لا تتحرك!، متساءلين: إلى متى سنظل في هذا الوضع المأساوي؟ وإلى متى سنظل نشكو ونتضرع ونناشد ونتظلم، وكل ذلك لا يجد طريقه إلى آذان المسؤولين؟.. وإلى متى سنظل كمن يؤذن في مالطا، أوينفخ في قربة مثقوبة؟!!