الرؤية الدلالية لرواية (ريح الجنوب) للروائي الجزائري الكبير عبدالحميد بن هدوقة

> «الأيام» صالح عقيل بن سالم:

> صدر كتاب في جريدة (الثورة الثقافي، عدد 115، الإثنين 17 مارس 2008م) وكان يحمل رواية (ريح الجنوب) للروائي الكبير عبدالحميد بن هدوقة، وما شدني للقراءة: أولاً ما يحمله العنوان من دلالة، وثانياً اطلاعي على المقدمة التي قدمها الدكتور محمد مظلوم، إذ يرى أن هذه الرواية علامة فارقة في تاريخ الأدب الجزائري، وإحدى الركائز الأساسية في تاريخ الرواية العربية في هذا البلد، وذلك لما تنطوي عليه من تمكن بنائي لافت، ومستوى سردي محكم، ومقاربة عميقة لنماذج الشخصيات، ومعالجات فنية خاصة. وتعد على الصعيد العربي واحدة من كلاسيكيات الرواية العربية، ومن بين أبرزها خلال القرن العشرين. وعلى الصعيد العالمي نالت اهتماماً واسعاً، فترجمت إلى نحو عشر لغات عالمية، بينها الفرنسية، الألمانية، الأسبانية، والروسية.

فكل ذلك يترك للقارئ سبيلاً إلى القراءة الدقيقة لمعرفة الرؤية الدلالية التي تعبر عنها الرواية، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال تحليل عناصر بنائها.

أولاً: وجهة النظر أو الفكرة: وهي تصوير الحياة الريفية وما تحمله من عادات وتقاليد. وقد ركز الكاتب على مسألتين في غاية الأهمية (المرأة) و(التمايز الطبقي)، وخرج بنظرة عامة معبرة عن الشقاء والعذاب والفقر لتلك الحياة.

ثانياً: الحدث: سار الحدث من النهاية؛ «كانت ريح الجنوب قد سكتت منذ أن طلع أول شعاع للفجر مصافحاً قمم الجبال ومحيياً من بعيد ما واجهه من تراب القرية التي قضت ليلتها تلك تحت الغبار والدوي العنيف..». غير أن الكاتب كان مهتماً وحريصاً على لفت انتباهنا إلى عنوان روايته من أول جملة ابتدأت بها الرواية «كانت ريح..» وفي ذلك دلالة على الشقاء والبؤس الذي تعيشه تلك القرية، (فالريح) رمز للعذاب والخراب في كثير من الأحيان، قال تعالى:(?فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم* تدمر كل شيء بإذن ربها...) الأحقاف الآيتان (24-25). ومن الملاحظ في سير الحدث تصعيده أحياناً حتى يسيطر على كل مشاعر القارئ وأحاسيسه؛ «بعد حفل التدشين المؤثر وما تخلله من كلمات ترحم وتمجيد للشهداء أخذ مالك يتجول بين صفوف القبور التي زادتها اللوحات التذكارية المنصوب عليها نوعاً من التساوي يثير الخشوع، وإذا به تستوقفه لوحة قبر مكتوب عليها (هذا قبر الفتاة الشهيدة زليخة بنت القاضي، من ضحايا قطار 57م..)».

كذلك يترك الحدث -أحياناً- للقارئ مجالا آخر للمشاركة بخياله تجاه ما يجري في الرواية.

ثالثاً: الوصف: تتكشف ثقافة الكاتب الروائية أو القصصية من خلال دقة الوصف للشخصيات، وسير الأحداث، والمكان والزمان.. وقد اتكأ عليه كثيراً دون أن يخل بانسجام الأحداث والشخصيات، أو يحدث انفصاماً بين القارئ والنص، إذ كان كثيراً ما يجري الوصف أثناء الحوار: (وقالت: «هذه زليخة ابنتي التي تقرأ في الجزائر، أنت لا تعرفها يا مالك!» فتصافح الفتيان، وكانت زليخة حينئذ في حوالي الثامنة عشرة من العمر تقيم في الجزائر لدى خالتها. ولاحظ مالك ما تتحلى به زليخة من جمال وحيوية، ولاحظت هي ما يبدو على مالك من فتوة وذكاء..).

رابعاً: الشخصية: اعتمد الكاتب في بناء روايته على كثير من الشخصيات، وكانت دقيقة من حيث التسمية تتناسب والأدوار التي تؤديها، كما كانت منها الرئيسة ومنها غير الرئيسة.. فالشخصيات الرئيسة هي (مالك، وعابد بن القاضي، ونفيسة، ورحمة)، واللافت في هذه الشخصيات أن جعل كل شخصية مغايرة للأخرى، (فمالك) رمز للثورة والجهاد والإخلاص، و(عابد بن القاضي) رمز للطبقات الإقطاعية التي تكره الثورة، و(نفيسة) رمز للعذاب والقيود، و(رحمة) العجوز رمز للتفاؤل.

فاختلاف النفسيات وتغايرها أعطى الرواية حركة وصراعاً، إذ كان يوحي بثورة قادمة لتغيير الظروف: (فأجاب ابن القاضي ضاحكاً: «قلت لك إن الناس لا يحبون خدمة الأرض، كيف تريد أن أنال حمد الخاص والعام بإعطائهم ما لايحبون؟»، فقال مالك بهدوء:«إن الناس لا يحبون أن يبقوا عبيداً إلى الأبد»).

خامساً: المكان والزمان: كان المكان إحدى قرى الشرق الجزائري (الريف)، وكان الزمان الفترة التي أعقبت جلاء الاستعمار الفرنسي ونيل الاستقلال، حيث كانت الحياة تفتقر إلى الكثير من التغيير والمعالجات.

سادساً: الحوار: اعتمد الكاتب على عنصر الحوار، الذي من خلاله كانت تتكشف الأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصيات، مما لا يدع مجالاً للمواربة، نلمح فيه الصدق الفني، وكان قائماً على عنصرين (الديالوج): «وسأل المعلم مالكاً فقال:

هل رأيتها؟

فابتسم مالك قائلاً:

من؟

فقال المعلم:

من؟! عذراء القرية».

و(المنلوج): «وواصل حديثه النفسي قائلاً: لعل الفتيات اللواتي تربين في المدن يختلفن عن الفتيات هنا! يضحكن للرجال الأباعد دون أن يكون لضحكهن نوايا معينة! أو لعلهن من سذاجتهن لا يعرفن إذا تحدثن إلا الضحك، وإذا غضبن فلا يعرفن إلا الشتم المفرط..».

سابعا: اللغة: لا يكتب لأي عمل فني النجاح سواء أكان شعراً أم نثراً.. ما لم تكن لغته سليمة ومعبرة. واللافت في هذه الرواية أن لغتها جاءت في منتهى الإبداع والخلق، بعيدة عن التكلف والتقعر، جاءت فطرية سلسلة على لسان الرواي أثناء سرد الأحداث، ومقبولة عذبة على لسان الشخصيات. فعلى الرغم أن الكاتب ينقل لنا تجربة ريفية تتميز بلغة خاصة، فإنه استطاع أن ينجح في اختيار لغة بعيدة عن الابتذال والتكلف. فقد وظف اللغة الفصحى المفهومة المتداولة، وحاول أثناء حوار الشخصيات أن يوظف لغة المجتمع الذي يصوره (القرية)، ولم تظهر هناك أية مفارقات لغوية شاذة، بل كان ينقل إلينا بوساطة حوار الشخصيات كثيراً من الأمثال الشعبية ذات الحضور الواسع بين أوساط الناس والمجتمعات:«دعك يا بنيتي من هذا القول، بنت الحسن الشاذلي لا تضر! لم تفهم نفيسة جيداً ما تعني العجوز، فسألتها قائلة: من هذه بنت الحسن الشاذلي ياخالة؟، الشاذلية!.. ألا تعرفين الشاذلية بنت الحسن الشاذلي؟! إنها القهوة يابنيتي، وسيدي حسن الشاذلي هو الذي اهتدى إليها وعرف سرها..».

غير أنه كان - أحياناً- يتعمد لينقل إلينا لغة ذات تمتمات ملغزة (لغة اللعب) التي تدور في المقهى، وفي ذلك إيماء لطبقة من المجتمع كانت تحيا حياة أخرى لا تدري ما الذي يدور في البلاد، فكل همها اللعب والتخلص من الفراغ الذي يحيطها: (وبينما هما في صمتهما، إذا بصوت لاعب يصيح داخل المقهى قائلاً: «أرشم مشوي» فأجابه صوت آخر بأعنف من الأول: مشوي في القمر!.. هات ثلاثة! وقال الثالث: أربعة! ثلاث بنات وميسة: عريس وخياطة بيت!».

وبقيت كلمة سبقت الإشارة إليها أن هذه الرواية واحدة من أبرز كلاسيكيات القرن العشرين، تميزت بنقل تجربة وتصويرها بصورة عميقة ومعبرة، فكما ابتدأت بالنهاية، كانت النهاية التي ختمت بها مفتوحة، فالمرأة مازالت تعيش وضعاً مأساوياً، والناس مازال يحيطهم الفقر والعذاب، وريح الجنوب هي ريح الجنوب.

إن الظروف التي خاض الكاتب غمار الكتابة فيها أوصلته إلى تلك النقطة (نقل الواقع وتصويره)، لذلك ترك النهاية معبرة عن ذاتها، فهي لا تحتمل رؤية أو موقفاً محدداً، بل تحتمل أكثر من ذلك، فالمعالجات ربما قد تفسد في مثل هذا الموقف، أو تعقده وتخرجه عن دائرته المعبرة .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى