قراءات استكشافية «للنص» في شعر شوقي شفيق

> «الأيام» محمد عمر جميع:

> أحاول أن أتحاشى بكائي ..فيدفعني في البكاء.. أحاول أن أكسر الحزن، يكسرني ..يصطفيني صديقا ويتركني في الخواء

...

(رشا) تسأل الآن

ماذا نقول لها..؟

هل نقول مضى دونما عودة؟

صعبة هذه الأسئلة

صعبة مثل هذا التراب الذي جئت من شوقه

صعبة مثل طين الوطن

...

هل غادر الأصحاب؟

يتركني بكائي في مساماتي وحيدا

ثم..

يمضي في دمي.

- من قصيدة (في العروق بكاء التراب).. ديوان (مكاشفات) ص 57،56.

نعم، بهذه المقطوعة الشعرية الرثائية الجميلة من قصيدة (في العروق بكاء التراب) التي كتبها الشاعر شوقي شفيق في وفاة صديقه العزيز الغالي الفقيد المناضل عبدالعزيز عبدالولي- رحمه الله- نبدأ الكتابة عن شعر الشاعر المبدع شوقي شفيق، لما لهذا الشعر من مذاق فني خاص وأسلوب راق- شكلا ومضمونا- وعلى اعتبار أن الكتابة ضرورة ملحة بالنسبة للمثقف والناقد الحصيف ليكشف من خلالها عن بواطن الإبداع الفني والجمال الموسيقي الخفي (للنص)، ويلم بكل الجوانب الخيالية والصور الفنية للقصيدة، والتجربة الإبداعية للشاعر، لأن الإبداع الفني أو الفن- كما يرى أفلاطون- مصدره الإلهام أو وحي من عالم مثالي، فالشاعر أو الفنان ملهم يوحى إليه، ويستمد شعره وفنه الخالد من ربات الشعر والفنون، وبهذا المفهوم يعتبر الشعر أو الفن مظهرا من مظاهر العبقرية.. أو من قبيل الوجد الصوفي، ولايحمل رسالة هذا الإلهام إلا أفراد قلائل ذوو حس مرهف مشوب بالعاطفة، لذا فالشاعر أو الفنان يمتاز عن عامة الناس ويشذ عنهم في مزاجه وفي سلوكه، وقد أشار الشاعر الألماني (جوته) أنه حينما كتب (آلام فرتر) لم يبذل أي مجهود شعوري إلا الإنصات المرهف إلى هواجسة الباطنية، وذلك ما ذكر أيضا عن الموسيقار (شوبان) من أن الإبداع الفني عنده كان تلقائيا سحريا يرد عليه دون أن يتوقعه، ولقد كان (كولردج) الشاعر الإنجليزي يكتب أثناء نومه، كما لو كان مسحورا، ونجد (نيتشه) الفيلسوف الألماني يقول: «إن الفنان أسير في يد قوة عليا تسيطر عليه وتوجهه إلى غاياتها».

لهذا نجد أن الشاعر شوقي شفيق قد جمع بين الفسلفة والشعر، وبين الفن والإبداع، واستطاع بموهبته النادرة وشاعريته الفائقة أن يخرج القصيدة العربية من خيمة العمود الشعري إلى صحراء شعر التفعيلة معتمدا في ذلك على ثقافته الواسعة وتجربته الحداثية في الشعر الحديث.

من أين يبدأ جرحك؟

من جثة في الرماد الثقيل

أم من القلب متسعا لانهمار

البرودة

كل الشوارع سائحة في الحصار الجليل!

وحدك الآن تشعل نار البراءة في الجسد

المنطفئ،

وحدك الآن تمنح للبحر عرى الفصول

وترمم جدران منفاك

تسبح في جزر النفي

وحدك تستقدم الورد،

تمنحه نكهة وقناديل

مستوحدا ترتخي في مسافات حزنك،

تتسع الخطوات

وأنت تلملم وجهك بين ركام الذهول

فمن أين يبدأ جرحك

إن الشوارع سائحة في الحصار الجليل!.

- من قصيدة (يباس) في ديوان (أناشيد النزيف) ص 30،29.

من خلال هذه القصيدة نلمح أن الشاعر شوقي شفيق اعتمد على قدرته التكنيكية في بناء النص، لأن بناء النص صناعة لها تقاليدها الفنية، ولايستطيع أن يتقنها إلا شاعر كاريزمي موهوب، فالشاعر هنا ترجم انطباعاته وتأثيره ترجمة فورية، تنصب فيما أنتجه من هذه الأبيات الجميلة ذاتها، وغيرها من الأبيات الأخرى، معتمدا في ذلك على حسه المرهف وشفافية مشاعره، فهو يمتلك القدرة الكاملة على تطويع اللغة وتشكيل الكلمات وصياغة الجمل من خلال معجمه الشعري وعبقريته الفائقة، مثله مثل ذلك الرسام الذي يطوع سطح القماش الأملس الذي قد لايكون صالحا لأن يرسم عليه شجرة عجفاء غير ملساء، وسرعان ما يجعله برهافة حسه صالحا لقبول صورة الشجرة غير الملساء، ونلاحظ أن في هذه القصيدة الجميلة ازدحمت الصور البلاغية البديعة، كما أنه في بعض هذه المقاطع الشعرية استخدم العبارة الاستفهامية التي تدل على المكان (من أين يبدأ جرحك)، وافتتح بها القصيدة لتدل على اندياح الصورة الفنية دون اختزالها وتفتتها، فهو شاعر ذكي يعرف الفارق بين الورد والرماد وبين التبر والتراب:

أما أنا..

فيظل قلبي صاعدا نحو الدريئة

واصطلام المغفرة

أسميتها زهراء، فازدهرت أناشيدي

وأسمتها الظهيرة قُبرة..

سأعب من هذا النبيذ رذاذة

وأعب من مطر يجىء إلى الظهيرة دفقة

وأخض أنهاري

لأسكب في مدها شأفتي

هذا أنا

تجتاحني زهراء

تسحقني على جسد مضيء بالنبيذ

وبالحرائق.

- من قصيدة (حرائق النبيذ) - ديون (الأرض في بهارات هاويتي) ص12،11.

إذا أمعنا التأمل في قراءة هذه الأبيات وفكرة النص ومدى تناسقها مع الصورة الفنية التي وردت في المقطع الرابع، على اعتبار أن الأناشيد مثلها مثل الورد تزدهر، ولها رائحة زكية نفاذة تلتصق في أنف الشاعر شوقي شفيق، ومن خلال هذه الأبيات يمكن لنا قنص ذبذبات الجمال الفني للنص، وقدرة الشاعر على استخدام أدواته التعبيرية في رسم الصورة الفنية واختيار البحور الشعرية المناسبة للنص، وهي البحور الشعرية الخفيفة الصافية والتفعيلات ذات الإيقاع الموسيقي الجميل، بما يدل على ميكانزم العمل الإبداعي، فهو شاعر ذو تجربة شعرية فذة، قل أن نجد لها نظيرا، فالشاعر شوقي شفيق من مواليد 21 أبريل 1955، في مدينة (عدن) مدينة الثقافة والفن، ويعتبر رائدا من رواد الشعر الحديث والقصيدة الحديثة في اليمن والوطن العربي، وصدر له العديد من المجموعات الشعرية:

1- تحولات الضوء والمطر - دار ابن خلدون - بيروت 1983.

2- مكاشفات - دار الهمداني - عدن 84م.

3- أناشيد التريف - دار الهمداني - 89م.

4- شرك شاهق - الهيئة العامة للكتاب - 99م.

كما صدر له مؤخرا عمل أدبي شعري مشترك مع الشاعر نجيب مقبل، وهو مجموعة شعرية صدرت عن أمانة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين المجموعة المعنونة (خرائب الأنا صلصال الملك)، كما ترجم جزء من شعره إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية، وغيرها من اللغات الأخرى.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى