«الأيام» تستطلع أوضاع مناطق القبيطة.. قصص ليس لها نهاية وعذابات يومية بحثا عن الماء بالقبيطة (4 - 3)

> «الأيام» أنيس منصور :

>
الجفاف ونضوب الآبار والنزوح الجماعي ثلاثي مزعج في مناطق مديرية القبيطة.. يحتفظ المواطنون في ذاكرتهم قصص الألم وعيش المصائب وحكايات السكرات «بدبة ماء»، قصص الوفاة بالغرق والسقوط في الآبار، ومهاجمة الوحوش في رحلات الليل، ولفظ الأنفاس بسموم الحيات والثعابين، وإجهاض الحوامل، وحالات الإصابة بالإعاقة الحركية، صور ومشاهد عريضة، مزعجة، حزينة، بحزن المديرية، تجمعها مصيبة جفاف وشحة المياه.

نقف على بعض منها للاطلاع والاتعاظ وإيقاظ الحواس للإنقاذ السريع والحلول السليمة.. فإلى تفاصيلها:

مصرع طفلتين بحاجز مائي

قبل عام ونصف العام شيع أهالي منطقة (أكمة العيدي) بالهجر قبيطة الطفلتين (شذى وعبير) من أسرة واحدة.. يصف الحاج أحمد عبده الهجري فاجعة ومأساة الوفاة في حاجز مائي تتجمع فيه مياه الأمطار قائلا :«شذى وعبير أختان ترافقتا للذهاب إلى حاجز الماء وعلى رأسيهما دبتان بلاستيكيتان كان سيرهما في طريق ملتوية بعيدة عن المنزل بعد الظهر، انضم إليهما فتيات أخريات وبدأت عبير برمي وعاء عليه حبل لغرف ورفع الماء، كان الجهد أكبر من قوة عبير وشذى حتى سقطت النعال في البئر، حاولتا استخراج النعال بمحاولات عدة لكن اقتضى قدر الله أن تسقط إحداهما، حاولت الثانية إنقاذ أختها وصوتها يرحل إلى بعيد فسقطت الثانية غريقة وسط ماء الحاجز العميق، فتيات أخريات لم يستطعن عمل شيء لإنقاذ الطفلتين، وما هي إلا دقائق حتى اختفت جثتا الأختين في قاع الحاجز وليس لهما أثر سوى الأحذية الطافية فوق سطح الماء، وتم استخراج الطفلتين ملتصقتين وجثتين هامدتين بعد شفط المياه بمضخة كهربائية، وليس بوسع الموجودين إلا ترديد عبارات (لاحول ولاقوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون).. كانت «الأيام» قد نشرت حادثة خبر غرق الطفلتين بعد يوم من زمن الحادثة.

كان ذلك مشهدا محزنا اهتزت له قلوب المؤمنين، تناقل الناس الفاجعة بحسرة وندم ودموع تحرق الوجنات، لكنها لم ولن تحرك جسد السلطة التي تتغنى بإنجاز المشاريع والخدمات».

الماء وضحايا الثعابين السامة

قصص أخرى تواترت أخبارها في سجل المقهورين والمقهورات، البائسين والبائسات، والعطشانين رجالا وأطفالا ونساء وفتيات توفاهم الأجل بلدغات الحيات والثعابين السامة فوق الآبار وخزانات المياه والسدود، وفي الطريق لجلب مياه الشرب أثناء السير ليلاً في قنقنان والمقابل ونجد عيريم وحميض والمرابحة والأغبرية والسعادنة.. نستعرض وقفات تفصيلية لثلاث وفيات من بين ثماني عشرة مأساة وفاة بلسع أشداق وأنياب الأفاعي، فقد كانت المفاجأة مفزعة في وادي حدابة العليا عندما تم العثور على الطفلة نعمة علي الحدابي وهي تصارع الموت خلف دبة ماء بعد أن لدغها ثعبان وهرب، تم إسعاف الطفلة الملدوغة لكنها فارقت الحياة قبل الوصول إلى مستوصف كرش، أمسك مدير المستوصف د.منصور علي سيف بالسماعة لعله يجد عرقاً ينبض بالحياة لكن القدر سبق وماتت نعمة وهي تبحث عن قطرة ماء تروي أهلها من لهيب العطش.

حتى الرجال أيضا لم يسلموا من مصائب ومواجع البحث عن ماء الشرب في وادي الحيدين الهجر، كان ناشر قائد على موعد مع القدر حين اصطدمت قدماه بأفعى غرزت أنيابها وبثت سمومها في قدميه وهو يسير خلف حمار قبل صلاة الفجر عائدا من البئر في موسم الجفاف، كان منظره محزناً وكئيباً وهو يتلوى ويصيح من شدة الألم وقد تجمع الناس حوله ولكن لم يستطيعوا فعل شيء حياله فحملوه فوق الأكتاف وأسعفوه إلى مستشفى الراهدة الذي فارق الحياة فيه .. وذكر بعض الذين حضروا لحظات الفراق والموت وحشرجة الحلقوم أن ناشر قائد كان يهمس هل وصل الحمار للبيت ويوصيهم بما تبقى من دبب الماء فوق البئر، كان على موعد للعودة لنقلها إلى المنزل. كما قص لنا شداد علي عبد الرقيب قصة امرأة في المناطق الواقعة بين وادي شعب بالصبيحة وقرى القبيطة كانت ضحية ثعبان في ليل بهيم وهي تنقل الماء من البئر.. وكثيرة هي القصص الواقعية والحوادث المتكررة في موسم جفاف الماء ونضوب الآبار، لا أدري هل ستوقظ ضمائر المسئولين القائمين على المديرية والمحافظة؟ وهل يعلم وزير المياه بضحايا الثعابين المائية بالقبيطة؟!

الماء والموت بصور متفرقة

كتب يوماً من الأيام الكاتب عبدالله عبدالإله القباطي من وادي السحر «قصة الحزن في أيام الفرح» قصة امرأة ذهبت لجلب الماء لكنها لم تعد، وجدوها ميتة على قمة جبل تحتضن دبة ماء التي رحلت وسافرت من أجلها من منزلها، وترددت الأنباء أنها أصيبت بالإغماء وانكسر عنقها وعمودها الفقري، ولم يعرف أهلها بموتها إلا في المساء في رابع أيام عيد الفطر المبارك.. وقد علق الكاتب عبدالله عبدالإله (رحماك ربي.. الجفاف لا يرحم).

قبل ما يقرب من شهر لقيت الطفلة سحر محمد علي حتفها في منطقة عراصم بالقبيطة حين انزلقت قدماها بسبب الطحالب وسقطت إلى عمق بئر ذهبت إليها لجمع دبة ماء، فماتت سحر في قاع البئر وبقيت دبة الماء صامدة في انتظار من يملؤها!! ووري جسدها الطاهر في مقبرة عراصم لتكون شهيدة الجفاف في دولة الكذب على الذقون والاستخفاف بإرادة أبناء القبيطة وثقافتهم المنتشرة في ربوع الوطن العاطش.

إحدى نساء الخجرة تدعى عيشة هزاع بعد أن أضناها التعب والسهر وهي عائدة إلى منزلها حاملة الماء غلبها النوم أثناء السير تعثرت رجلها اليسرى فسقطت الدبة فلم تفكر في سلامة نفسها وهرعت تلاحق دبة الماء التي تدحرجت إلى أسفل الجبل، تحطمت الدبة وتطاير الماء هنا وهناك وفي ذلك الوقت ذرفت دموع المرأة أكثر من الماء الذي تطاير، وتسير حاليا بعكازين من شدة الإصابة وعمقها، وهكذا تتكرر فصول المعاناة والشقاء، كل يوم تنضب مياه البئر الأولى والثانية وتتزاحم النسوة وتتعالى أصواتهن وتزداد حدة الخصومات على أولوية وأحقية نسبة الماء الطالع من البئر، ويتسابقن في الصباح الباكر للوصول إلى البئر ولا يعدن إلا وقت الظهيرة، شمس ساطعة قوية تحرق الجلود، ومسافات سير طويلة جبلية.. لقد أصبح الماء غائرا وقليلا لايكفي احتياجات السكان، وتظل النساء والفتيات والأطفال في صراع مع الدلو والسد، معادلة صعبة لا يستطيع أحد فتح طلاسمها.. هذه هي الحال التي وصلت إليها القبيطة بكل جبالها وسهولها وحركة مستمرة ليلا ونهارا لا يعرفون الراحة، سباق مع الزمن لتحدي الصعوبات، صعوبة في الحصول على الماء وصعوبة في جمعه ونقله، غصص وعذابات يومية وأمراض وكأنهم في حرب وحالة طوارئ ليس لهم همّ ولا قضية سوى طلب الماء، يستنجدون بالدولة والمنظمات والجمعيات الخيرية للخلاص مما هم فيه.

يرفع عبداللطيف فارع يده وهو يشير نحو مقبرة قائلا :«تحت هذا الركام بالنبي شعيب والفوز هي مناطق أشد جفافا.. تحت هذا الركام الترابي دفن ثلاثة مواطنين بينهم عجوز، أحدهم بصاعقة وهو يعمل في قنوات المياه التي تذهب إلى الخزان (السقاية)، والثاني غرق في السد والثالثة (العجوز) ماتت في الطريق قبل الوصول إلى عين الماء لأسباب مجهولة، لكنها كانت تبحث عن ماء، رحل أولئك المساكين عن الدنيا وارتاحوا من همّ المعيشة وظلم الجفاف، لكن برحيلهم هذا تركوا لنا وراءهم أسئلة كثيرة للسلطة المحلية والمؤسسات الحكومية.

إلى متى ستظلون تستمتعون بهذه المآسي؟! هل تقع القبيطة في جغرافيا الجمهورية اليمنية؟!

قصص كثيرة تدق لنا ناقوس الخطر، حكاية مديرية يحاصرها الجفاف من كل جانب يقتل تضاريسها العطش، وينعى ذاتها الواقفة على أطلال الفساد.. حاولنا الصمت عن قصص وحكايات النساء الحوامل اللاتي تعرضن للإجهاض فوق الآبار جراء مشقة وتعب الحصول على الماء والحمولة الثقيلة، نترفع عن نشر هذه القصص لما يعده البعض ثقافة «العيب والخزي»، وهناك مئات الحوادث للذين تعرضوا لإعاقات وعاهات مستديمة سقطوا من فوق الحمير وانزلقوا من الجبال، وحوادث السيارات الناقلة للماء، وارتفاع جنوني لأسعار الحمير.. قصص كثيرة تكشف لنا مدى الخراب الذي يسببه الجفاف، قصص ليس لها نهاية تحتاج إلى أرشفة لتصبح في ذاكرة أهالي القبيطة المحرومين من أساس الحياة، ووصمة عار كالوشم في جبين النظام والسلطة التي لا تظهر إلا أيام تعليق الملصقات الانتخابية ومهرجانات (الملق).. هي قصص مؤلمة جدا في أحاديث عابرة، وما خفي كان أبشع وأعظم. لاتزال مديرية القبيطة في انتظار جهة الإنقاذ. قصص محزنة تدمي القلوب وتذرف العيون تحتاج أن يصوغها العبقري الفيلسوف (فكتور هيجو) في كتابه «البؤساء».

ويبقى الأمل في أكف الصالحين المرفوعة بالدعاء في الثلث الأخير من الليل:(اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من اليائسين، اللهم اسقنا الغيث ولا تأخذنا بالجدب والقحط والسنين وارحم الشيوخ الركع والمواشي الرتع والأطفال الرضع).

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى