وداعاً أيها المعلم العظيم

> د. علي عبده الزبير:

> لقد كان نبأ وفاة الأستاذ القدير والمربي الفاضل والأديب والناقد عبدالله فاضل فارع فاجعة حقيقية تزلزلت لها قلوب الذين تعلموا على يديه، أو تنسموا عبير أخلاقه الطيبة، أو ترشفوا رحيق علمه الرصين عبر المنشورات المختلفة .

وكاتب هذه السطور أحد المفجوعين برحيل هذا المربي الفاضل، فهو واحد من الذين تعلموا على يديه من خصائص اللغة الإنجليزية وخطها في شهور محدودة ما لم يتعلموه من غيره في سنوات طويلة، وليس ذلك من قبيل المبالغة ففقيدنا الجليل لم يكن من أولئك المعلمين الذين يلقون بالمعرفة إلى طلابهم ثم لا يبالون أوجدت طريقها إلى عقولهم أم لا، ولكنه كان معلماً قل أن يأتي الزمان بمثله وكل الذين عرفوه في قاعة الدرس سيبرؤنني من تهمة المبالغة حين أشبهه بالفلاح الذي يزرع غرسة فيظل يسقيها ويحرسها حتى تؤتي أكلها ، فكذلك أستاذنا فاضل الفاضل ، لم يكن يقر له قرار أو يهدأ له بال حتى يطمئن إلى أن المعلومة قد وجدت طريقها إلى عقل الطالب، لقد كان يسجل درجات تقدم كل طالب في الخط والإملاء والحفظ بعد كل تكليف يكلفنا به، وكثيراً ما نعجب حين ندرك أن الأستاذ أدرك من علامات تقدمنا في التحصيل أكثر مما ندركه نحن من أنفسنا، أليس الفلاح أدرى بمستوى نمو نبتته من النبتة نفسها؟

ولن أنسى ما حييت كيف كان أستاذنا الراحل يظل قرابة ثلاث ساعات يلقي إلينا بدرر من علمه واقفاً، وإذا جلس دقائق معدودة فليس للراحة، ولكن ليخرج من حقيبته أوراقاً أو قصاصات رتبت بإتقان في زاوية معينة من الحقيبة التي تحوي كل ما يمكن أن يحتاج إليه معلم منظم وأنيق، ولم نكن نخفي إحساسنا - نحن الشباب - بتواضع هممنا واحتمالنا أمام تلك الطاقة العجيبة لشيخ شرع في العقد التاسع من العمر، وكم كنا نخجل من (عشوائيتنا) إزاء تلك الأناقة غير المتكلفة التي اتخذها منهجاً في محاضراته ومحادثاته وفي كل سلوكياته في قاعة الدرس وخارجها، فهو يدرك ما يقول ويعي ما يفعل، فكان في كل أحواله معلماً، حتى في أوراق الامتحانات كان يبدو معلماً حريصاً على تثبيت المعلومة أكثر من كونه ممتحناً يستفرغ ما قرّ في عقول طلابه، أما إذا تأملت في طريقته في تقييم ورقة الامتحان فستجده يقدم درساً عملياً في أمانة التقييم، وأناقة الرصد، فضلاً عن حرصه على تعريف الطالب بأخطائه، وبما كان ينبغي له أن يفعل، ليس في المعلومة فحسب، ولكن في طريقة الكتابة وأناقة الحرف، ولن يسعك بعد ذلك إلا أن تعجب من تلك الدقة المتناهية في رصد الدرجة التي تستحقها كل ورقة امتحانية، بعيداً عن التحيز والهوى الشخصي اللذين لا يتفقان مع ما اتصف به من الصدق والمواجهة الشجاعة اللتين يشهد بهما له كل من تعامل معه في قاعات الدرس أو خارخها .

لقد كان الأستاذ فاضل معلماً قديراً، ومربياً فاضلاً، وناقداً حصيفاً، ومثقفاً موسوعياً، وشاعراً مرهفاً، بكل ما تحمله هذه الأوصاف من معانٍ سامية ودلالات أخلاقية، فأنّى لمن اتصف بكل ذلك أن يغادر الذاكرة ؟ وأنّى لوطن فقد مثل هذا العلم الشامخ ألا يعلن الثكل؟ وأنّى لأناس جالسوا هذا المعلم النادر ألا يجاهروا بفجيعتهم؟ ولكن أمام سنة الحياة، وحقيقة الموت، لن يجد المرء بداً من الصبر على قضاء الله تعالى، ونسأل الله تعالى أن يتغشى فقيدنا بواسع رحمته، وأن يسكنه في عليين مع البررة الكرام والأنبياء والصديقين.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى