شفق الباعديل المتفرد على منائر الكثيب

> «الأيام» مازن سالم صالح:

> لعل من مزايا المنتج الشعري للشاعر المتفرد (محسن باعديل) قابليته للقراءة المفردة، ونحن نتغلغل في بناه الفنية ودلالاتها الرمزية.

ولعلي أعني تتبع (الثيمة)، التي تؤكد السياق الذي ذهبت إليه في إطار الملامح النقدية التي تبدت لدي منذ الوهلة الأولى للقراءة، وفي مثل هذا التتبع المتنامي يبرز نص (الشفق المتفرد على منائر الكثيب) كدائرة دلالية تجسد الأصداء الشعرية المتباينة التي ضمنها ديوانه (تنهيدة البحر) الصادر عام 2004، ضمن الإصدارات المحتفى بها في صنعاء عاصمة للثقافة العربية.

ووقوفي عند هذا النص بالذات لتلاحم الأنساق الشعرية الواردة في ثناياه، ولطبيعة بناه الرمزية والجمالية ذات الأبعاد السردية، وحضور الدائرة الإيقاعية في سياق متسلسل مع الدوائر الأخرى، عبر تفاعل جميل جذاب سلس وأنيق.

ولاستكشاف عوامل النص الجذابة، سأقصرها في ثلاث مجموعات مختلفة من وجهات دلالية لا بنائية. ونبدأ بالدائرة الأولى، وهي الاجتماعية والنفسية، التي يمكن بلورتها من خلالها-أو هكذا أزعم- وصولا لرابط القراءة الموضوعية.

«أني أرشح ما تبقى من مساماتي/ وأشرب مهجتي زادا للريح إن جاءت تعانقني/ فقد خذل الصحاب مروءتي/ والليل مثلهم/تناءى كالصحاب/ لا العشب أحلام تؤانس وحشتي/ كلا/ ولا النبع الزلال هو الزلال».

أنين مكتوم يؤطر حركة الفعل عبر منظومة القيم (الدين والأخلاق والجمال) صداه السردي، يرتفع مع بروز الدلالة الزمانية والمكانية في (الليل والعشب والنبع)، وحركة المفاعلة تنطوي على حلم واهن، لكن التجربة الشعرية على مثل هذه الحالة موضوعية، وقد تكون لها أبعادها الجوهرية الفيزيقية، لكن أبعاد الحلم بعد تصالح الذات، قد تكون عرضية، خاصة وهي لا تتوافق نفسيا مع منظومة القيم حتى في حالة مطابقة ومقابلة المفردات في المجموعة.

فإذا أخذنا الليل مثلا في مقابلة النبع من وحي الدائرة الزمانية والمكانية، لوجدنا الظلمة لاتتم ولاتتقابل مع الدفقة، وهذا ما يعطي طابع الإضافة والتميز لهذا الشاعر من المنظور التقني (تكنيك القصيدة)، لاسيما وهي تتوالى طبيعية من غير تكلف (وروية مسبقة)، مما يدعم الحضور الشعري للتجربة الفردية، ويحملها طابع الإدهاش والجاذبية.

المجموعة الثالثة:

«ذهب الذين أحبهم/ لا فرحة تأتي ولا ذكرى لعيد/ قاسمت أوجاعي على غسق تخطى شرفة النور/ فابتهلت يداي منائرا تترى/ تعانق ما تبقى من مهيلات الكثيب على الكثيب/ ونوازع شتى تسامرني/أني هدهدتها روحي من الوريد إلى الوريد/لايبتني مجدا إذا أشلاؤها بنيت على نهب وفيد».

وتبدو في خضم الدائرة المنعزلة لواعج غربتها عن الآخر وعن المجتمع، وهذه الأبعاد مرئية، سواء أكان من حيث البنية الغنية (المضمون الشعري) لسطور هذه المجموعة (الثانية) أو البنائية أو التركيبة، وعبر الدوال الإيحائية والسردية التي تمضي في توال حميم لرسم هذه الأبعاد وآثارها النفسية على وجدان قائلها وغربته شكلت (ديموغرافيا) شعرية، ترسخ هذه الإيحاءات الرمزية التي ليست بحاجة إلى تبيان.

فهي تحكي عن نفسها بنفسها، وعبر النسق ذاته (ديالوج) شعري/نفسي، يحكي عن مضامين هذه الدائرة عبر سطور هذه المجموعة من خلال الاستلاب الروحي والمادي والغربة النفسية والمكانية على معادل الزمن، الذي يبدو أنه هنا غير موضوعي أو غير فيزيقي بالمرة.

المجموعة الثالثة:

«أني سأشرب ما تبقى من مساماتي من زعاف السم كأسا/ إن تبقى في يديها/ وأرتل الأشعار/ من جمر الجنون الظامئات/ والفلوات/ إن صدت خطى المجنون يوما عن سراها/ وأشير للأموات/ إذ لا روح للأحياء في زمن تحجرت فيه الضمائر/ أني سأمضي شاهرا فقدي/ وبيت من قصيد/ في زمن يبارك كل لص يحتبيه/ والأدعياء كثر/ وحشد من نفاق/ هذي بلاد الحاس والحساس والظلم الشديد.

وهذه المجموعة تستقر سطورها عند حدود الدائرة السابقة، لكنها تتماهى هنا مع غربة ثالثة فقط، هي غربة (الذات)، حين تصير الوحشية على الساعة الجامدة، بلا حائط، وعدادها (السكون) المخيم والمهيمن على مجرى الأحداث من المنظور الشعري الذي لايتخلف عن منظومة القيم لحظة، ويتداركها في البدء والختم، ولم يقف حيالها محايدا في أية مجموعة من المجموعات الثلاث، لا بالمعية المقيدة ولا بالضدية المطلقة في خضم القراءة الممتعة، لهذا النص المتفرد شكلا ومضمونا، لشاعر متفرد أيضا ملؤه الإحساس المفعم بالحياء والجمال المسكون بالقيم إلى حد المناداة عليها، والحزن من الارتداد عنها في زمن تحجرت فيه الضمائر إلى حد استعذاب سم الزعاف اجترار القار العلقم من النبع الذي يعد زلالا.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى