في وداع الفقيد عبدالله فاضل فارع ..أيها المسكون في ذاكرة الوطن

> «الأيام» محمد بن ناصر العولقي:

> ظل القلم يهتز في يدي أسبوعا حتى استعاد بعض توازنه ليثخن بياض الورق بدمعة وفاء وحزن في رحيل الأستاذ القدير والأديب عبدالله فاضل فارع، أحد قامات الثقافة اليمنية السامقة، وعميد حقل التربية والتعليم والتعليم الجامعي في عدن خاصة، والجنوب عامة.

وقد بدأت معرفتي بالأستاذ عبدالله فاضل منذ بواكير تفتح وعيي الثقافي والسياسي، إذ كانت الأيدلوجيا هي الأصل في وعي حقبة الثمانينات، ومع أنني لم أكن أبطن ولا أبدي احتراما مناسبا لأيدلوجيا السلطة في الجنوب حينها إلا أن الانطباع العام الذي كرسته هذه الأيدلوجيا حول رواد النهضة الثقافية والأدبية والتنويرية والوطنية في عدن والجنوب قبل الاستقلال بأنهم أدنى شأنا وأهزل بضاعة، مقارنة بمثقفي ومفكري أيدلوجية البروليتاريا.

أقول إن هذا الانطباع كان هو السائد في ظني وأنا أقع على بعض الكتابات والدراسات وأحاديث الذكريات التي كانت تنشر هنا وهناك، ويأتي فيها ذكر الأستاذ عبدالله فاضل أديبا وكاتبا ومثقفا ووطنيا غيورا، وأول أمين عام لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، وأول عميد لأول كلية من كليات جامعة عدن، أو بعبارة أخرى رئيس نواة جامعة عدن.

والمفارقة أنني عندما تعرفت إلى الأستاذ عبدالله فاضل وتعرف إليَّ عام 2004 وجها لوجه نقلت إليه ذلك الانطباع الذي كان لدي عنه وعن أمثاله من الأعلام الثقافية والفكرية والوطنية في تلك الأيام (الخوالي)، فقال لي: والآن كيف تشوف؟ قلت: يكفي ببساطة شديدة أن وعيكم وثقافتكم وفكركم أنتج للجنوب وعدن استقلالا، أما هم وأيدلوجيتهم، فيشهدون على أنفسهم بأنهم أنتجوا عكس ما أنتجتم!!

ولم يكن قولي تقربا منه أو كسبا لدعمه، ولا كان عربون معزة واحترام يقدمه يومئذ طالب علم لأستاذه في بداية تعرف كل منهما على الآخر، بل كان خلاصة تراكم خبرة ونشاط ثقافي واجتماعي وسياسي، وقراءة للواقع وما آلت إليه أحداثه قبل الاستقلال وبعده، وقبل الوحدة وبعدها، وهي خلاصة وقراءة تشكلت من روافد عديدة، ولم تكن تخصني وحدي، وإنما شاعت بين الأكثرية العظمى ممن تعرض وعيهم للتزييف فترة، ثم تكشف أمامهم بعدها جزء كافٍ من الحقائق، وامتد بين أيديهم سيل من الاعترافات التي تعيد الفضل لأهله، وتخبر ولو ضمنيا أنه لم يكن في الإمكان أحسن مما كان.

لقد كان الأستاذ المرحوم عبدالله فاضل من جيل تخلق على كفيه مسارات متنوعة من الرؤى والأفكار والهواجس الوطنية التي أصبحت لاحقا- حسب قانونها الطبيعي- إما متناقضة يحاول كل منها نفي الآخر، وإما متراتبة إلى درجة تماهي كل منها في الآخر، فالوطن الذي كرسوا جهدهم وعقلهم لخدمته، وجاهدوا في سبيل تحريره من دياجير الاستغلال والتخلف آل مرة أخرى إلى حيث كان، والحرية والعدل والمساواة التي أشاعوا مفاهيمها وشيدوا مداميكها في وجدان ووعي الناس فترة من الزمن صارت من جديد مفاهيم واستعمالات تحاكم ذاتها، وتبحث عن سبب منطقي يستطيع أن يبرر الخطأ الذي حدث، أو على الأقل يحدد موضع حدوثه، هل هو في المفهوم أم هو في الاستعمال! ولعل ذلك يدل على أن جيل الأستاذ عبدالله فاضل كان جيلا خلاقا وعبقريا، امتص خطاب العصر وجيَّره لصالح مجتمعه في جميع مجالات الحياة، السياسة والثقافة والتعليم والفكر والأدب.. كما يدل في الوقت ذاته على الفجوة الواسعة التي بين هذا الجيل وبين الأجيال اللاحقة به، التي لم تستطع تطوير ما انتهى إليه جيل الأستاذ عبدالله، بل إنها- باستثناء نزر يسير من المبادرات- لم تستطع حتى مجرد الحفاظ عليه.

إن شعورا بالأسف لرحيل الأستاذ عبدالله فاضل يمكن أن يكون كافيا لو أن الأمر يتعلق بأستاذ درسني مادة اللغة الإنجليزية في السنة التمهيدية لشهادة الماجستير، ولكن الأمر ليس على هذا النحو، لذلك كان الحديث عن رحيله حديثا عن جيل كامل من أمثاله، كانوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، جيل توزع عقله على عقول كثيرة، وتفرع أصله إلى أصناف متنوعة من العلم والصناعات، فكان رحيله انهيار عمود في بناء هو في أشد الحاجة إلى التماسك، فالخطب أعظم، والمصاب أفدح، والصبر- مع قلَّته في زماننا- أعز وأبعد!

أيها الفارس العدني النبيل.. وداعا! وإنك ستبقى مسكونا في ذاكرة الوطن، هذا الأفق الفسيح المليء بالصخب والغضب إذ فارقته، وهذا الضمير الموجوع الذي لايكاد جرح يبرحه إلا ألفاه جرح مثله.

أيها الفارس العدني، الذي لم يترجل قط.. سلام عليك يوم ولدت، ويوم الموت، ويوم ابتعاثك حيا راضيا مرضيا بإذن الله.. ورحمة الله عليك ورضوانه!.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى