إشكالية الثقافة.. وتنميتها

> د. هشام محسن السقاف:

> في مؤتمر فيينا للحقوق الإنسانية المنعقد في ربيع 1993، تشبثت بلدان من العالم الثالث (الصين وسنغافورة في المقدمة) بمواقفها المتمثلة في تقديم الاهتمام بالحقوق الاقتصادية وتغليبها على الحقوق السياسية والمدنية الأساسية، باعتبار الأولى وثيقة الصلة بالاحتياجات المادية المهمة. وهي الفرضية التي راجت تحت مسمى (فرضية لي) نسبة إلى (لي كوان) رئيس وزراء سنغافورة الذي صاغ الزعم بأن الحريات والحقوق تعيق النمو الاقتصادي والتنمية، وهو زعم مدحوض من أساسه، ويسقط في محك التجربة الإنسانية والتاريخية من أول وهلة، فقد ترافق تحرير السلعة إلا من قيمة العمل المبذول فيها منذ بواكير البرجوازية الرأسمالية، بضرورة ملحة، أصبحت مع الزمن ديدنا وسمة، وأعني تحرير الكلمة من أشكال الكبت والإرهاب والإلغاء لتغدو سلعة محررة أيضا.

والجدير بالملاحظة أن الارتباطات- في مجال الحقوق الإنسانية والاحتياجات المادية- ليست أداتية فقط، بل وبينوية أيضا، إذ أن الحريات السياسية يمكن أن يكون لها دور مهم في توفير الحوافز والمعلومات، من أجل الضرورات الاقتصادية الملحة (التنمية حرية، ما رتياصن، عالم المعرفة، الكويت 2004، 181) وأن شدة المطالب الاقتصادية وكثافتها تضيفان إلى- ولا تنقصان من- الضرورة الملحة للحريات السياسية، وثمة اعتبارات ثلاثة مختلفة تقودنا في اتجاه القول بغلبة الحقوق السياسية والليبرالية الأساسية:

1- أهميتها المباشرة في الحياة الإنسانية في اقتران بالقدرات الأساسية (بما في ذلك المشاركة السياسية والاجتماعية).

2- دورها الأداتي لتعزيز الحجج التي يدلي بها الناس عند التعبير، ودعم مطالباتهم بالاهتمام السياسي (بما في ذلك مطالباتهم بشأن الاحتياجات الاقتصادية).

3- دورها البنائي في صياغة المفاهيم عن الاحتياجات (بما في ذلك فهم الاحتياجات الاقتصادية في سياق اجتماعي) المرجع السابق ص 181.

ومن ذلك نفهم تماما أن «الحرية» بمفهومها الأشمل محورية للتنمية، وأن جمهورية الهند قد تكفلت بحل التناقضات العرفية والقومية واللغوية والدينية بالديمقراطية بشكل لافت قابل للنمو، في إطار الوحدة السياسية غير المهددة بالمقارنة بجارتها الباكستان.

ومن ذات المنطلق، وبعيدا عن التعمية علينا بالنظر إلى أن انهيار الشيوعية كنمط تنظيم مجتمعي قد فتح المجال أمام التعميم الواسع لنمط الإدارة الاقتصادية الليبرالية أو لاقتصاد السوق، إلا أن ذلك لا يعني خمود النزاعات الدولية والداخلية، ولاجفاف ينابيعها داخل الرأسمالية ذاتها، فليست الشيوعية كظاهرة تاريخية إلا رد فعل متطرف على تناقضات الرأسمالية (برهان غليون، العرب وتحولات العالم 2003 - 12).

ومن ذات الفرضيات الجديدة التي أفرزتها وقائع جديدة عالميا في مطلع العقد التسعيني من القرن الماضي، دخلت اليمن نطاق اكتمالها الجغرافي والسيادي السياسي كقوة أقليمية، بالوحدة اليمنية في مايو 1990، وأصبحت الديمقراطية ركنا من أركان وحدتها السلمية، بيد أنها تصاب (الوحدة) منذ بدء تجييرها لصالح الصيغة التوافقية لذات الإدارتين السياسيتين النافذتين في الشطرين، بدلا من البحث لإيجاد الصيغة الجديدة لدولة أخرى، لا شمالية ولا جنوبية، ولا خليط منهما، تستوعب متغير الوحدة بمضامينه الدالة والذاهبة إلى أفق تجيير الدولة الناشئة بآلياتها القانونية المنتظمة لصالح (الحرية/الديمقراطية) على اعتبار أن التنمية حرية بالأساس (امارتياصن).

ومع ذلك كان المتاح ديمقراطيا حالة فريدة في اليمن، ينبثق من بين ركام تعثر التنمية، وإعادة إنتاج الحالة القديمة نفسها بالمشروع الأحادي السابق، بعيدا عن رؤى وقيم إستراتيجية وطنية شاملة تخدم النطاق الجغرافي الموحد والإنسان القائم عليها.

ويقينا إن الثقافة بمفهومها الشامل والمعقد(?) قد استفادت من الوضع الجديد الذي أتاحته وهيأت له الوحدة اليمنية، متزامنا مع انفتاح كوني غير مسبوق، وبتداخلات جلية لاتعترف بالحدود، وبين ما هو وطني وعالمي، فالثقافة لايمكنها أن تكون مقفلة داخل الشعوب البعيدة، أو في الفن العالمي، فهي جزء من حياتنا اليومية، بل في الواقع هي التي تعطي معنى لها (مايك كرانغ، الجغرافيا الثقافية، عالم المعرفة، 317 يوليو 2005 ص 20).

ويتضح منذ البداية أن الثقافة في بلد يخرج من شرانق الشمولية، والمحظور والتابو المتعدد، سيجد في المتاحات الديمقراطية- رغم ضآلتها- حالة مغايرة لما كان سائدا قبل تحقيق الوحدة اليمنية، حيث خضعت الثقافة لمعايير التوجه السياسي الاجتماعي في إطار أيديولوجي معين، بينما تبرز الثقافة التقليدية لتعكس وجه القوى الاجتماعية المسيطرة على دفة الحكم في الجزء الآخر من الوطن، لكن ومن قتامة الصورة، وفي الحالتين، تظهر تجليات مغايرة، مثل تأسيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين أول منظمة إبداعية رائدة موحدة على المستوى الوطني، ويجيء اهتمام الدولة بالسينما والمسرح والتمثيل والموسيقى والفنون التشكيلية ضمن توجهاتها العامة ليخلق حالة الانتعاش الثقافي في الشطر الجنوبي من الوطن، وغير بعيد عن ذلك كانت السينما حاضرة في المدن الرئيسية على الأقل، وتومض محاولات جادة للتأسيس في مجالات إبداعية فنية أخرى، وكان المبدعون اليمنيون وتحديدا الشعراء والكتاب يشكلون مملكتهم الأدبية الرائعة رغم غياب الحريات والديمقراطية.

لقد أفسحت الديمقراطية الناشئة المجال لخلق الحالة الثقافية المصاحبة للتبدلات العميقة التي شهدها الوطن بعد أن خلع عباءة التشطير، بعض ملامحها أصيل ثابت معبرا عن استحقاقات ملحة، وبعضه ناشئ من ردات فعل تصاحب عادة لحظات الخروج من قماقم الشمولية، ورغم أن التأصيل الديمقراطي- بما هو سياسي واجتماعي واقتصادي تقوم بتأديته منظومة قانونية متكاملة (الدولة)- ظل متعثرا ويحبو في مراحله الأولى، بسبب من المظاهر التقليدية المعيقة التي كانت سائدة إبان التشطير والتي تنكمش حينا وتنتعش حينا آخر، كل ذلك عوامل لجم لمشروع حضاري ثقافي وطني إنساني كبير، عماده (الديمقراطية) بشكلها ومضمونها الليبرالي، مما أثر إلى حد بعيد في أن تأخذ التنمية الثقافية مداها المرجو، فهي بحاجة للحرية كما هي الحرية مهمة للتنمية- كما أسلفنا- ضمن آليات دولة عصرية، أزعم أنها غير موجودة، وإن كانت في طور النمو والتشكل، بحيث إذا ما استطعنا حل التناقضات القائمة اليوم ندخل بالثقافة وتنميتها طورا فاصلا لايخضع الثقافي للسياسي، ويصبح (المثقف مهموم بوطنه وأمته وإنسانيته، مشارك بفاعلية في صياغة الخطاب المجتمعي العام، ولايكتفي بالأبراج العاجية التي يمارس فيها البعض استعلائيته وانفصاله عن دوره الإنساني العام، وهو بالقطع مثقف عضوي) على حد توصيف (غرامشي). مجلة «الكويت» العدد (295) ص (52)، ومن ثم الابتعاد قطعا عن مقولة وزير الدعاية النازية جوبلز: «كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي».

إن الثقافة بكل الأشكال المتعددة تجد في فسح الحريات مجالات للتنامي المستمر، وتشكل عبق المجتمع اليمني إذا ما استطعنا الخروج من حالة التعثر ببناء الدولة الديمقراطية الحاضنة، ونقيس من ذلك الخرم الصغير الذي تسللت منه أشعة الديمقراطية بفضل الوحدة ونضالات الشعب اليمني، الكم اللافت من المنظمات الثقافية والحقوقية والمنتديات والمراكز والاتحادات الإبداعية، ناهيك عن ما تحمله الصحفات الثقافية وبعض المجلات المتخصصة من بشائر واعدة على طريق تحرير الثقافة من القيود، بما في ذلك القيود الإعلامية وهيمنة الدولة عليها (وسائل الإعلام) بذات الطراز، والعقلية التي كانت قائمة في العهد الشمولي، كما لاتجد الدولة القائمة ضمن أولوياتها الملحة (تنمية الثقافة) في مضمار بناء الإنسان والقدرات، ما يجعلها تلتفت إلى هذه القضية بصورة جادة، ويكفي أن نعلم أن وزارة الثقافة تأتي في ذيل أي تشكيل حكومي حتى الآن على الأقل، وهو ما يدفعنا أن نؤكد على أهمية أن تأخذ هذه القضية مساحة الاهتمام الكافي في الأجندة اليمنية على أسس هي:

-1 وضع إستراتيجية وطنية للتنمية الثقافية تستشرف أقصى درجات الإحاطة بالمضامين الوطنية والقومية والإنسانية للثقافة اليمنية، وبالاستفادة من مزايا التنوع الذي توفره البيئة اليمنية ضمن الأحواض الثقافية للمناطق اليمنية.

-2 جعل الثقافة وتنميتها في صلب الأولويات اليمنية غير القابلة للتأجيل أو التهميش، وأن هذه التنمية يجب أن تكون في نسق واحد من الجهد المبذول للتنمية الوطنية الشاملة وبناء الإنسان بناءً سليما من كل الجوانب.

-3 الارتقاء بالمؤسسات الثقافية القائمة دون هيمنة بيروقراطية أو سياسية معيقة لتأدية دورها كاملا، مع ما يستوجبه ذلك أن تكون لهذه المؤسسات المقدرة المادية الوافرة لأداء رسالتها.

-4 دعم المنظمات والتشكيلات الثقافية الشعبية خارج الإطار الرسمي، والعاملة ضمن قوالب منظمات المجتمع المدني، دون وصاية أو رقابة أو اشتراطات، وفصل الثقافي عن السياسي.

-5 التأصيل للمفاهيم والقيم الديمقراطية كحاضن اجتماعي لنهضتنا في كل المجالات، وفي الثقافة تحديدا، وتحرير أوجه الإبداع عامة من القيود أيا كانت.

-6 تشكيل الهيئات الوظيفية الراعية للإبداع كالمجلس الوطني للفنون والآداب والثقافة، ورعايته ماديا دون تدخل في اتجاهات أدائه الثقافي والإبداعي.

(*) في نهاية الخمسينات استطاع المؤلفون أن يجمعوا أكثر من 150 تعريفا مختلفا للثقافة قيد الاستعمال في الكتب الأكاديمية.. وأن المقاربات المختلفة المروية يمكن أن تتضمن أفكارا مختلفة نوعا ما عن ماهية الثقافة. فالمبدأ الموجه في هذا العمل هو أن الثقافات هي مجموعة من المعتقدات والقيم التي تعطي معنى لطرق الحياة وتنتج ويعاد إنتاجها من خلال أشكال مادية ورمزية (مايك كرانغ).

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى