المسبوب .. ذلك المسلوب

> «الأيام» محمد العزعزي:

>
الأرض البور بالقرى الطاردة والبيئة الجبلية الموحشة كأنها تكونت قبل ميلاد الكون وتُركت نسيا منسيا إلى اليوم بوادٍ انكساري معزول عن الوطن والعالم .. المسبوب هذا هو اسمه من بعد التكوين بأديم الوادي العميق والمتفرد بالناس المهمومين بهواجس الصخور الآيلة للسقوط فوق الرؤوس وتحت السماء الملبدة بالغمام والضياح المعلقة بحواف حادة فتكرم أهل تلك القرى كل عام بانزلاقات صخرية، ويعيش السكان يومياً أهوال يوم القيامة بمنخفضات عازلة خلف الجدران بأسوار المنفى في اللازمان واللامكان حتى هجر غالبية الأهالي الأرض والمساكن من شدة الإهمال الرسمي المتعمد وخطر سيول المجاري التي لوثت الأرض ونشرت الأمراض والأوبئة واختلاط مصادر مياه الشرب بالمياه العادمة فقرر البعض الرحيل المر ليبقى الفقراء والكادحون .

لمحة جغرافية

تعتبر عزلة المسبوب بوادي أديم شديدة الانحدارات ووعرة التضاريس مقطعة الأوصال، وتقع بين مديرية الشمايتين بتعز والمقاطرة بلحج، فهي متداخلة إدارياً وجغرافياً .. وهذا الوادي عبارة عن أخدود منخفض يفصل التربة شمالاً والعفا بالأصابح غرباً .

أديم الوادي على شكل مثلث غير منتظم رأسه أسفل عُبل وقاعدته مفتوحة شرقاً باتجاه المقاطرة الغربي .. الأرض المنخفضة والوعرة ملتقى سيول المناطق المرتفعة، وأعظم السيول تأتي من وادي عبل بالأصابح، ووادي واسر بشرجب، فتجرف التربة والنبات .

انزلاق الصخور

قال المواطن عمر قاسم سعيد :«تتلقى قرى المسبوب بأديم كل عام انزلاقات صخرية تدمر الأرض الزراعية وتقتلع الأشجار وتدك المنازل، وكان آخرها العام الماضي، ولايزال خطر الجلاميد قائماً يهدد الأرض والإنسان لكثرة الشقوق والفواصل ويزيد خوف المواطنين في فصل الصيف موسم سقوط الأمطار، وهناك صخرة ضخمة تسمى (دقم المجارين) تهدد قرى الحائط ، ومن المتوقع انزلاقها في أي لحظة على المنازل الآهلة بالسكان، ويصل وزن بعض الصخور الآيلة للسقوط إلى أكثر من 100 طن، وأكبرها دقم فريعة بالأجن».

السكان

قال لقمان ماجد :«يبلغ عدد السكان المقيمين أكثر من 400 نسمة والمهاجرين إلى مناطق مختلفة أكثر من 2500 نسمة .. سكان القرى البائسة لايعيرون اهتماما لمنجزات الوهم، فقرانا محرومة من كل شيء، وحياة الناس مأساة يومية في البيئة القاسية والأوضاع الاقتصادية الصعبة .. دربنا أنفسنا على التعب وتحمل المشاق ولذة المنفى حتى توحدنا مع المكان ومرافقة الخوف والمعاناة ونمو الفقر وغياب العدل».

وأضاف : «نقاسي غربة المنفى داخل الوطن بقرى يلفها الحزن بفوضوية، هذا الزمن الخرافي بأجساد نحيلة وخطوات تمشي فوق الهاوية .. كأن حياتنا مؤقتة بهذا الزمن الفوضوي بحاضر مؤلم ومستقبل مجهول».

أهم القرى

قال التربوي مصطفى شريف علي : «قرى المسبوب محرومة من كل شيء ومن أبسط الخدمات الإنسانية فاضطر كثير من السكان إلى الهجرة .

المسبوب الأعلى، الحائط، الردع، الموجع ، المقابر، المخاب، الصويفح، هجمة أديم. المساويد، الجحبار، دار الصفا.. هذه القرى قابلة للزوال، إلا الفقر يزيد ويكبر يوماً بعد يوم في جبال تتصدع ونفوس تتشقق .

الأشجار

عبداللطيف سعيد عباس قال :«توجد بقرى وادي أديم الأشجار الجبلية المتنوعة، وهي من البيئة الأصيلة وشجيرات مختلفة ونباتات مزهرة والحشائش وأهم الأشجار : القرض، العسق العلب ، الأثل ، الطلح ، السمر، التمر هندي (الحمُر)، كما توجد أشجار وشجيرات نادرة هي : زهرة الجبل (مُعمّرة) وهي شجرة سقطرية، وعش الغراب، ونبات زرع الحنش والسنف والصبار (العبلي)، وأشجار الفروش التي تناقصت أخيراً واختفت الحيوانات المفترسة كالنمور والسباع والثعالب بسبب التغيرات البيئية والقنص وتوجد مجاميع القرود، وأسراب الطيور البرية».

الزراعة

الشاب عبدالله علي عبدالله، قال :«الأرض الزراعية عبارة عن مدرجات ذات تربة مفككة جيدة التهوية تعتمد على الأمطار الموسمية كالحبوب الغذائية: الدخن، الغرب، الدجرة (لوبيا)والذرة الشامية (الهند)، وتزرع في الشتاء وعلف الحيوان (الحيق)، وتناقصت أشجار الفواكه لندرة الماء وأهمها : الجوافة، النخيل،المانجو، البن الذي يكاد أن ينقرض، والرمان والقات، كما أن هذه التربة تحتضن أشجار الفردق (القرانيط) الذي كان يستخدم كمادة موسمية للأقلية وعلاج الإسهالات الحادة» .

تجربة فريدة

محمد ماجد محمد شمسان (23 عاماً) قام بهجرة معاكسة من القحفة بالتربة ليعود إلى قريته بالمسبوب، وقال:«أكملت الثانوية العامة بالتربة تعز، وبعد الزواج عدت إلى قريتي وزرعت الأرض التي كانت مهملة ملك أسرتي، والآن أزرع الخضار وأسوق المنتجات إلى سوق التربة، وأهمها البطاطس، الطماطم، الجزر، الكوسة والكزبرة، بهدف تغطية المصاريف اليومية وإحياء الأرض، وبعد أيام يمكنني تسويق الرمان والموز والجوافة، وأقوم بتربية الحيوانات والدواجن، فارتبطت بالأرض أفضل من متابعة وظيفة غير مضمونة وصعبة المنال المرهونة بعلم الغيب».

كارثة السيول

يوم 2008/5/9م سقطت أمطار غزيرة على الشمايتين واتجهت السيول نحو منخفضات الوادي فجرفت على المواطن طه حيدر (80 عاما) ست نعاج هي كل ما يملك من متاع الدنيا، وفي سياق آخر شكا المهجرون من المسبوب إلى قحفة عبل بالتربة حرمانهم الخدمات، فالطريق وعرة والإضاءة معدومة وكذا الهاتف الأرضي وتلف شبكة مياه الشرب فتضطر النساء إلى حمل الماء على الرؤوس من أماكن وعرة وبعيدة عن المنازل .

النقل

القرى النائية ممزوجة الدروب حرمت من أبسط مقومات الاستقرار ولا يمكن استخدام الحمير في بعض القرى فيلجأ السكان إلى حمل حاجاتهم على الرؤوس والأكتاف، ويقسم كيس القمح إلى نصفين لإيصاله إلى المنازل بمغامرة يومية محفوفة بالمخاطر، ويحلم الأهالي بشق طريق لربط القرى بالتربة، وقال أحدهم : «نتقدم بهذا الطلب المتواضع إلى الحكومة ونتمنى أن لا نرد خائبين في زمن القرية الكونية بالألفية الثالثة».

المياه

دوافع الهجرة أكبر من دوافع البقاء بسبب شحة المياه وتلوثها بمياه المجاري التي اختلطت بالآبار والعيون، وقال مصطفى الأديمي : «يعتمد السكان على نقل مياه الشرب بواسطة الأنابيب البلاستيكية من عيون تتواجد في الضياح العالية وأهمها : المقطرة، الخردج، الركب، المشهوس، والركب الأسفل والبرك والسقايات وغيرها ويعتمد آخرون على الآبار السطحية، وهي بئر الحائر وبئر المخاب وكل الآبار ملوثة بالمجاري الواصلة من التربة وقرى الشمايتين المرتفعة فارتفعت الملوحة والرائحة الكريهة وظهور طبقة زيت خفيفة وملوثات أخرى على مياه الشرب».

الكهرباء

لاتزال القرى محرومة من الضوء وتعيش في ظلام دامس، وأكد مواطنون أن الأعمدة وصلت إلى قرى الحائط ، لكنها بدون تيار وكل قرى المسبوب مظلومة رغم قربها من مدينة التربة، وقال مواطن : «وعدونا بالكهرباء فاختفت الأعمدة والأسلاك وحرمت 10 قرى من هذه النعمة النيرة لتصل قرانا المظلمة بالضياء».

الصحة

قال عمر سعيد : «من مشاكل القرى انعدام وحدة صحية للإسعافات الأولية ورعاية الطفل والمرأة ويضطر الناس إلى حمل مرضاهم على الأكتاف إلى مستشفى خليفة بالتربة، وتنتشر عدة أمراض كالملاريا والتيفوئيد والحميات، ويتعرض النساء لأمراض مختلفة ويذهبن ضحية الولادات المتعسرة أحيانا في المنازل بالطرق التقليدية».

التعليم

المدرسة اليتيمة بقعر الوادي تسمى 26 سبتمبر الأساسية منجز الثورة الوحيد، وقال مديرها يعقوب أحمد عبدالله:«أنشئت المدرسة عام 1979م وتتكون من 4 فصول قديمة متهالكة وفصلين من الزنك، وتعمل فترتين صباحية ومسائية وعدد المعلمين 16 وعدد الطلبة 105 ذكور وإناث»، وقال مدرس رفض ذكر اسمه : «26 سبتمر منذ النشأة لم ترمم وباتت أثرية وتحتاج إلى توسعة وترميم وإعادة بناء من جديد ويزداد الوضع سوءاً عند سقوط الأمطار على الأجسام الصغيرة وتبخرت الوعود الحكومية».

وقال التربوي (ر.ع .أ):«انخفض عدد الطلاب في السنوات الأخيرة بسبب هجرة الأهالي إلى المدن ويرحل طلبة الثانوية إلى مدرسة الشعب بالمقاطرة ومدارس الشمايتين، فيصعدون الجبال برحلة عذاب يومية خصوصاً الإناث، وعند تعميد شهادة للطالب يتكبد ولي الأمر خسارة تزيد عن عشرة آلاف ريال وسفر إلى مركز مديرية المقاطرة».

كارثة البيئة

قال الوالد عبدالقادر محمد أحمد:«أصيبت الأرض بكارثه التلوث البيئي، ويعاني السكان الإهمال غير المحدود، فيصرعهم الصيف بأمطاره وسيوله السوداء، وانتشرت الأمراض واختلطت مياه المجاري بمياه الشرب، فهجر الناس القرى ودمرت التربة والنباتات، وانتشرت الروائح الكريهة وتخللت مياه المجاري الشقوق والفواصل الصخرية، وتكاثرت القواقع والأوساخ، ويرمي سكان المرتفعات بالشمايتين الحيوانات النافقة على قرانا، ورغم تعالي الأصوات وشكاوى المواطنين منذ عهد الرئيس عبدالرحمن الإرياني إلى الآن لم نجد آذاناً صاغية ترفع الأضرار، ولم تجد طريقاً للتنفيذ سوى المزيد من الكوارث».

طرق الموت

تكاد تكون الطرق المؤدية إلى المسبوب أقرب توصيلاً إلى الآخرة لوعورتها وعدم صلاحيتها حتى لسير الحيوانات، فتزيد معاناة الإنسان، وأهمها :طريق القشرة : معلقة بين الأرض والسماء وإن قر بها غريب فلابد أن يكتب وصيته الأخيرة، ومنذ عام مضى قام المواطن أحمد غالب بإصلاح أصعب نقطة بالطريق فتبرع بالحديد والأسمنت والعمل وصنع جسراً بطول لايزيد عن مترين رحمة بالنساء والأطفال .

طريق المشرقة : وعرة وخطيرة على هيئة درج في الجزء الأعلى وتزداد خطورة أيام الأمطار وأثناء الضباب، ومات في هذه الطريق (6) مواطنين بفترات زمنية متفرقة .

طريق مُصير : هي الطريق الوحيدة التي تمر بها السيارات نوع (لاند كروزر) لتربط التربة بالزريقة وتستفيد منها قرى معدودة بالمسبوب، وقد شقها الأهالي أيام التعاونيات فترة السلامي، والمرحوم أحمد سلام الحضرمي، وتم مؤخراً تجديد ورصف أجزاء منها بتمويل صندوق التنمية بعدن، وإشراف لجنة برئاسة الحاج قاسم سلام، الذي جمع التبرعات المالية من الميسورين، وأشرف على الإنجاز رغم الصعوبات والعراقيل .

رموز اجتماعية

هذه القرى النائية أنجبت رموز اجتماعية أمثال الشيخ عبده فارع غانم، والأديب الشاعر شرف عبدالغني الخطيب أحد ثوار حركة 1948م، الذي تعرض للسجن والتعذيب فترة الإمامة، والذي عمل موظفا بالجمارك بأماكن مختلفة، وكان شاعراً وأديباً رحمه الله .

ومن الرموز العملية الدكتور عبدالله فارع عبده المتخصص في مجال فيزياء الطاقة النووية.

أكبر معمر

عبدالله الأديمي يبلغ من العمر 98 عاماً لايزال يتذكر أحداث الحرب العالمية الثانية، وقال لـ«الأيام»:«كنت متواجداً في عدن واشتركت بالكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني ضمن صفوف جبهة التحرير حتى تم الجلاء» .. عبدالله مازال يتمتع بروح الشباب فيصعد الجبال لاستلام مرتبه من التربة الذي سماه «ماعاش الضمان الاجتماعي لايكفي مصروف يوم».

أما قبل

اشتهر المسبوب بعزلة شديدة منذ القدم ولايزال يقاوم بإرادة شعبية لا تليق حتى اليوم ينشد السكان فك الحصار، وفتح آفاق جديدة تربطهم بالوطن والدخول إلى عالم أرحب تسوده المساواة والعدالة المفقودة .

بهذه العجالة أردنا في «الأيام» أن نبرز للجميع مأساة هذا الجزء من الوطن بالزاوية المهجورة وغياب التنمية من أديم الأرض المنسية عمداً في جغرافية المكان، والمعزول بالبؤس والحرمان .. الناس الطيبون مرهقون بالغلاء والظلم والظلام، فمتى يجدون الرعاية وتعيد لهم الدولة الاعتبار بشربة ماء وحبة دواء وطرق آمنة .. ودرء مخاطر المجاري وصيانة التربة وإصلاح المدرجات الجبلية وبناء السدود .. هذا هو المسبوب .. ذلك المسلوب كما هو لا أزيد .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى