في وداع أبي الفقيد عبدالله فاضل فارع.. طاؤور العَدَن

> «الأيام» جمال السيد:

> .. واستراح رماد (أبوي عبدالله) في مقبرة الرحمن في المنصورة، جارا للحبيبين والدي وحسن الحداد (رحمهم الله جميعا).

لقد مات قطب المعرفة الصافي ورأس النقد في اليمن، ولكن إشعاعه يزداد مع الأيام، فلا سراج يضيء وينير بعدما ينطفئ إلا الأديب والشاعر. والذي يكبر بعد الموت هو الأديب الحق، والشاعر المبدع، من مال الناقد يُهدى له أيها العاتق الأصيل.

تركنا (شيخ المترجمين) بعد أن رأى حصاده الثمين وجهد السنين زرعا مثمرا فينا نحن أبناءه ومريديه. إيه يا أبتاه!، أنت مثالنا، والتلميذ ينكبّ على مكارم معلمه ومحامدة فينتهبها مكرمة مكرمة ومحمدة محمدة، إنـا نزن الحياة، كما وزنت، بميزان العلم والإرادة، وننذر النفس، كما نذرت، لأجل الخير والمحبة، ولنا البشرى في الجنة ، ولنا في الدنيا الذكر الحسن.. أنت حيّ فينا، وإنّا لانعزّي فيك أحدا غير عدن التي رفعتَ ذكرها عاليا في ساحات مجد الفِكَر.

كأبي عثمان، شقّ (ابن الشيخ عثمان) لنا طريق الثقافة وعبّدها، ومهد عقاب المعرفة، وأرسى قواعد التدريس و التربية. إنه أشبه بابن بحر الذي قال فيه شيخ الأدباء: «كان، وحده، جامعة تُلقى المباحثُ عن منبره، فتتلقاها الأمصار معجبة ومكبرة.. الجاحظ أبو الأدب الشعبي. جدّ ضاحكا، وتفلسف ساخرا، وحلّ أخطر المعضلات وأدقها هازئا، فكان كل من جاء بعده عيالا عليه حقا، فهو أستاذ الأصبهاني في أغانيه، وهادي أبا العلاء إلى سلاح العميان وعتادهم».

كلاهما كان بحر علوم. امتلأ (أبوي عبدالله) معرفة، فسال متدفقا، وما قطّر. نشأ على الأدب والجمال وصار في ميدانهما فارسا لايُبارى، وكبُرَ حارسا مخلصا لبيت الفن، ومعلّما نموذجيا تخصص في علم النفس وطرق التدريس، يوم لم تكن اليمن تعرف أن التدريس علم وفن.

كانت حروفنا شاردة وكلماتنا مبعثرة، فجاء سمير الكتاب، حليف القلم، ليعيد ترتيب أفكارنا، ويرعى أسلوبنا، ويشذب ألفاظنا، فيضع كلا في محله الصحيح، بروح الناقد الأمين، وكانت طرق درْسنا بدائية خائبة، فجاء كبير النِقاب، نجيّ الألم ليصحّح اعوجاج منهاجنا، وليهذب أخلاقنا، بحلم الأب المستنير.. منه تعلمنا أن العلم محبة.

بهمة (ابن الشيخ عثمان) وعيدروس وجعفر وعزيز والنوبان صارت لنا في عدن كلية فجامعة من الطراز الأول، وبتفكير عبدالله وعُمَر صار للأدباء (والكتاب) اليمنيين اتحادٌ ومقر.

شرب (ابن زيد) من بحور الشعر عذبا من تُبن ـ وادي المعرفة الأول ـ وزمَّ مع ماء البمبة مالحا من بحر صِيرة، وعبَّ من نيل مصر، ونهل من منابع العلوم الإنسانية وآدابها بلغة أهلها حتى ارتوى، تعمّق في دراسة الأصول، وتبحّر في متون اللغة، وفَقِهَ أوابدها، لاتعْبُر الكلمة من شق قلمه عارية، فبعد أن يربطها بأخواتها الواقفات في السطر، يعنى شيخنا بتشكيلها، فتخرج إلى القـارىء أنيقة زاهية كمقطريّة في (وِيْل) لحجي، تسرّ القلب والعين والخاطر.

كان حجة في اللغتين، ظلّ فارعا وما تفرعن، لم يتدكتر لأنه جاء قبل الطوفان.

كان أستاذ الأساتذة والأساتيذ، حادا في نقده، متصلبا لمملكة الأدب السامية من غير تعصّب ولا جمود، أسلوبه رصين بعيد عن الابتسامة، وخالٍ من الجهامة، يكره خروج الأديب عن قواعد اللغة، أو إغفال معجمها، ولكنه يمقت التشبث بالقديم على علاته.. كالقمندان كان (الفاضل) يحدّ في لسانه لا في قلبه، يعالج الفكرة بقلب مُبْصرٍ محبّ، وبخاطر مستنير، وبروح العدني الذي لايكره أحدا.

كـ (رابندرانات) كان الفاضل معلما فاضلا ومربيا عظيما، مزج بين مزايا التعليم الحديث ومُثُل العربي وأصالته، كان أديبا فريدا، ومترجما ثقة، دعاه ماكنتوش (شيخ المترجمين) (Shaykh of Translators). كان وجهنا الوضّاح في محافل الفكر والأدب، وواحدا من مراجع جامعة العرب.

جاوز الثمانين وبقي جديدا كمعاني أبي الطيب، ظلّ أبونا عبدالله حتى أواخر أيامه أخضر الذوق، طري التفكير، عذب الحديث، عندليب المجالس، لايتخلى عنه عنفوانه، كما وصفه صفيّه الوفي أحمد الجابري:

«عذبُ الحديث إذا ما جئتَ مجلسَهُ

يوما يحدّثُ لا ريثٌ ولا عَجِلُ

يأبـى التذلّل، لاتلقاهُ في نفرٍ

إلا ويشمخُ ، في أعطافه زُحَلُ».

أجل، لم يحفل أبو مازن بأهل الحول والطول من الكتاب، ولا بسلطة الحاكم وأبهة كرسيه، فضحك في حضرته، على وجه شبيه بأبي حزرة المازح في بلاط ممدوحه:

هذي الأراملُ قد قضّيتَ حاجتها

فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر

كنا نهفو إليه فرحين لنعبّ من نبعه الصافي المعلومة والفكرة والخاطرة، ولنستقطر من فمه الذهبي الإشارة السابحة، والنكتة القارحة، نصغي إليه (مخزّنين) مشدوهين، وهو يتدفق صافيا كنبع عقّان مورد (أبونا عبده عبدالكريم) طيب الله ثراهما.

مارس النقد يوم كان الأدباء يتفهمّون غاية الناقد وصدق مسعاه.. نعم، الشعراء يقبلون المدح ويرفضون القدح، بل الناقد لدى بعضهم أبغض من الشيطان، ولكن سجايا (الفاضل) الكريمة أبقت مُنتقَديه في خانة الخصومة (الأدبية) لايتعدونها، ولما جفت منابع الشعر ومنابته، ولم يعد يجد الناقد مرعى يدرّ عليه قلمه، تحوّل إلى الدراسة والترجمة، وأبدع فيهما كعادته.

ترجم عن الإنكليزية والأسبانية: (أما آن الأوان) و(مملكة الغربان) ومسرحية (عسكر ولصوص)، و(رجال بلا نساء) قصص قصيرة لهمنجواي، (السياسي العتيد) مسرحية لإليوت، و(عطور الجزيرة العربية) لهارولد جيكوب، و(اليمن: رحلات المتيّم المهووس في البلد القاموس)

(YEMEN: Travels in Dictionary Land) لتِم ماكنتوش، وترجم مع ابنته شفاء بلحارث كتاب (صلاح الدين يلعب الشطرنج)، وترك مقالات نقدية ودراسات متفرقة منشورة في الصحف والمجلات، و(محطات في حياتي) وهي خواطر عن تجواله في بلدان العالم، وكيف حطّ في نيوزيلندا وأستراليا، وكيف درّس التاريخ البريطاني للبريطانيين.. وله ديوان بعنوان (دوّامة الهباء).

كان (أبو تميم) أحد بيارق عدن، الفردوس الأرضي الذي قال فيه سالم عبدالعزيز - رحمه الله-:

There towns are towns of doom and gloom

And mine is Eden in full bloom.

أديبنا الكبير.. يا شيخنا الجليل، يا أخا سالم عبدالعزيز وجعفر الظفاري وأحمد الجابري وأحمد حسين بلال ومحمد القاضي ويس عبدان ومحمد موسى والمحلتي.. ياصنو الحبيب الجامع، أيها الجامع محامد الرجال، إني أسمعك تحدثني: «إذا أحبك الصوملي يقدمك على أخيه»..

ياحبيب اللحجيين، يا بن زيـد

يا طير السما، يا (طاؤور) العَدَن

كقُبّرة شلّي (Shelley) الحزين، بنيتَ عشك على الطين، وسط البساتين، وغردتَ فسرى السرور عنيفا، وعلوتَ صادحا مبتهجا، تحتضن نور الألم، وترى في التطهر بالألم شفاء.. وتختفي فنسمعك..

Better than all measures

Of delightful sound,

Better than all treasures

That in books are found,

Thy skill to poet were, thou scorner of the ground!

كما تفتخر الهند بطاغورها، تفخر عدن بطاؤورها.. وإذا عدت العرب أدباءها فهل نستطيع أن نقدم أحدا على أبي أوس؟ لقد كان المعلم والمربي والشاعر والناقد والمترجم، كان صوت النقد الأدبي في جزيرة العرب، هو صوتنا في المدى، ورمزنا في موكب الأبد.

يا أبتِي الحبيب، أيها المقطري النبيل، يـانابغـة بني عثمـان..

سقى الله قبرك بغيثٍ من الوسميِّ قطرٌ ووابلُ!.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى