حجارة صماء تنطق في قصر المكلا وعيون تحدق بالزوار لتقول شيئاً

> «الأيام» علوي بن سميط:

>
قصر المكلا
قصر المكلا
ذهبت إلى القصر السلطاني في المكلا بواجهته الأمامية التي تطل على مدخل المدينة كمراقبة للواصلين والمغادرين من المدينة البيضاء فيما خلفيته المطلة على البحر تنظر إلى الأفق البعيد كأنها تنتظر شيئاً، ليست المرة الأولى التي أزور فيها هذا القصر الشهير، ولكن هذه المرة شاهدته يحتضر أو يذهب نحو المجهول مع ما يحتويه من كنوز بداخل حجراته الأرضية، طفت بالغرف الثلاث التي رصت فيها أحجار معروضة قد لا تعيرها اهتماماً، ولكن تجذبك إليها فهي تنطق بما لا تعرفه.

لا تندهش فهذا الجماد الأصم يحدثك عن ملايين السنين عن منطقة حضرموت وكيف كانت قبل (50) مليون سنة إلى أن تشكلت! في هذه الغرفة أصداف بحرية كبيرة وقطع صغيرة أو متوسطة لا توجد إلا في البحر، ولكن جيء بها من وديان حضرموت إذن من ملايين السنين كانت تلك المناطق بحاراً هائجة أو هادئة أو أنهراً عظيمة.. هكذا تتحدث الحجارة وعلى الرغم من رطوبة الجو بالمكلا وبداخل هذه الغرف تتوقف ملياً على نقوش الحجر ففيها قصص وأحداث من مراحل ما قبل الميلاد، وحجارة كبيرة عليها شخبطات بالكتابة القديمة كتبها أصحابها وهم ربما قادة محليون أو رجال صيد في براري حضرموت أو قوافل مرت تحمل البضائع من وادي حضرموت إلى ميناء قنا القديم.. هؤلاء نقشوا على هذه الحجارة، وهذا يعني توثيقاً حياً منذ آلاف السنين.. قطعة حجرية كتب صاحبها عليها اسمه (طاهمو بن هفرخ) قائلاً:«أهدي القطعة للإله سين»، وآخر يدعى (خيلم بن ترف كتب) على الحجارة ما يشبه العهد أو النذر قائلاً:«أضع نفسي وإرادتي وما أملك تحت حماية الإله».

تعود هذه الكتابات كما تبين لي من التعريفات الموضوعة أمامها إلى ما بين القرن الثالث والرابع الميلادي، و(سين) هو الإله القومي أو أكبر الآلهة في حضرموت القديمة. وفي غرفة أخرى وعلى وصلات حجرية ظهرت بارزة أسود مجنحة صغيرة وبحسب قراءاتي أنها رموز لحضارات أخرى ووجدت بحضرموت قد تؤكد العلاقات والتأثيرات بين حضارة حضرموت الأولى مع الآخرين.. وحقيقة فإن مقتنيات هذه الغرف قليلة مقارنة بمتحف سيئون للآثار، ومع ذلك فإن تلك الحجارة تنطق.. نعم وربما بنبرة عتاب! فكما ظلت مطمورة بين رمال حضرموت قرون قبل أن تصل للمتحف تتساءل وبشعور لا أدري ما أسميه سوى أن النتيجة إذا ظلت بهذه الوضعية فقد تتعرض هذه المرة للانكسارات، وهي تحت سقوف بدأت تنذر بالانهيار المباغت وشعرت أنها تحدثني عن هذا الخطر فاتجهت إلى الطابق الثاني، حيث مقتنيات سلاطين السلطنة القعيطية الذين حكموا حضرموت لأكثر من مائة عام.

غرفة مجلس الدولة القعيطية
غرفة مجلس الدولة القعيطية
تشاهد كرسي العرش ذا الأربعة الصولجانات تقف أمامه كأنك تخاطب السلطان لتنتبه إلى إحدى الصور الزيتية أو الفوتغرافية لسلاطين القعطة وكأن عيون السلطان عمر بن عوض بن عمر أو السلطان عوض بن صالح تحدق بك وفيها شيء من العتاب ربما لإهمالنا الاهتمام بهذا القصر المتحف وبكنوزه النادرة حقاً وكغيري من الزوار أخاطب السلاطين بأنني لست مسؤولاً كي أفعل شيئاً. وبعد هذا المبرر دلفت غرفة بها كل ما يتعلق بمجلس الدولة وتوقفت أمام صورة لسلطان يقدم كأساً لناد مكلاوي.. كم هم عظماء ومتواضعون.

على أية حال فإن حال القصر لا يسر، فكما أن مبناه متواضع فإن لمسات البساطة فيه جعلته فخماً ومهيباً خصوصاً إذا استعاد الزائر الأحداث والقرارات والفعاليات التي دارت بين جنبات قصر الحكم هذا أو ما صدر عنه محملاً بطموحات توقفت جراء تغيرات الزمن السياسية! ذهلت في زيارتي لليوم الثاني للقصر، حيث مكاتب هيئة الآثار والمتاحف.

كراسي ومكاتب عتيقة ومتهالكة تحت أسقف أكثر هلاكاً تتدلى منها مراوح سقفية طلاها الصدأ، جئت هذا اليوم بحثاً عن معلومات في المجلدات الصحفية التي يمتلكها المكتب فوجدت ترحيباً من د. عبدالعزيز عقيل، مدير الفرع في مكتبه المتواضع الذي لا يبدو عليه الفخامة والبهرجة كمكاتب أخرى حكومية لا تقدم ولا تؤخر شيئاً ومع هذا تحظى بالترف والأبهة.

هذا المكتب المتواضع يفتخر بأن شخصاً مثل د. عبدالعزيز، القامة العلمية الخبيرة بشؤون الآثار والانتربولوجيا يعمل فيها بصمت العالم المتمكن.. موظفو المكتب عددهم قليل جداً لكنهم أكثر التزاماً بالدوام الرسمي، لأنني ذلك اليوم جئت مبكراً وخرجت ما بعد الظهر وهم في حال يرثى له، ممرات وقاعات المكاتب خالية من فرش ولو مرقع.

لماذا هذه الحالة التي ألمت بالقصر وموظفيه، لماذا لم تلتفت الجهات المسؤولة للوضعية فكما علمت فإن نفقات التشغيل شهرياً لا تزيد عن مرتب موظف واحد في مرفق حكومي، أحياناً لا يستطيع الفرع تسديد فاتورة الهاتف ومؤسسات أخرى لا تقدم شيئاً ولا تؤدي خدمة يمتلك مسؤولوها من الهواتف النقالة المسددة بأموال عامة.

قطع حجرية بها نقوش وكتابات قديمة
قطع حجرية بها نقوش وكتابات قديمة
هل تعلم أن فرع الهيئة العامة للآثار والمتاحف لا يمتلك وسيلة مواصلات، وهل يعلم مسؤولونا حجم ومهمة موظفيها وهم يحفظون تاريخنا وهويتنا أم أن المسؤولين يمرون أمام القصر المتحف ولا يعلمون ما بداخله وأهميته.. أتذكر أن الأستاذ عبدالقادر علي هلال محافظ حضرموت السابق زار القصر ووقف على حالته المزرية ووجه سريعاً بإعداد الدراسات والكلفة وستتحمل المحافظة ترميمه وتأهيله للحفاظ عليه.

لماذا لم يتابع الأخوان في محلي المحافظة ومحلي مدينة المكلا هذا الموضوع من حيث بدأ.. وبالفعل فإن الدراسات الهندسية الأولية موجودة بالفرع.. قصر المكلا السلطاني معلم من معالم المكلا.. رمز لحقبة زمنية.. تصوروا لا سمح الله انهار واختفى.. هواجس يشاركني فيها الكثير من أن هناك وراء الأكمة ما وراءها ليسقط القصر لتتم الاستفادة من مساحته لأغراض متعددة أفلا تفقهون.

زوروا القصر لتصدقوا ما قلته، فإن حصاة طاهمو بن هفرخ سوف تحدثكم، وأعين السلاطين ستحدق فيكم مؤنبة، أما د. عبدالعزيز وموظفو القصر لا يمتلكون شيئاً سوى الحسرة، فليس بأيديهم شيء.. فأنقذوهم والقصر، وتحية للمحافظ الوزير اليوم عبدالقادر هلال الذي دق ناقوس الخطر، فلماذا تأخر المجلس المحلي ووزارة الثقافة عن النجدة؟!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى