مطرب اليمن الكبير عبدالكريم عبدالله توفيق سلطان الطرب العبدلي وهذا مطرب لحجي كبير آخر وجبَ علينا تكريمه

> «الأيام» جمال السيد:

> أعنّا ياكريم، فهذا عبدك عبدالكريم.. عبدالكريم توفيق صوتٌ شجيّ مُطرِب، فيه مَدٌّ وامتدادٌ وسحر، ينثال حِلّ الغناء كشلالات جحاف، وفيه تكسرّات موج صيرة والغدير. صوت بعيد الغور اتساعاً وارتفاعا، وفيه حنانٌ تَمُوجُ فيه الجراح آهاتٍ وآهات..

عبدالكريم سلطانُ طرب، في اسمه شيءٌ من تسلطنٍ وعبدَلَة.. تسابق على صوته كبار ملحني الأغنية في لحج.

في الحاضنة العبدلية شقَّ كريم بصَرَه على النور عام 1946م، وطلع فَرْخَ حَسُّون، غرِّيداً من (لِحْسَان)، وادي الشعر والطرب. حلَّ كريم في (الحسيني) فاختفى غصنا في الأغصان، وذاب مقاماً في تخت النغم اللحجي المؤصَّل، ودخل (المَرْخ) مدينة عدن فاستحال حيّاً بحرياً من بني صيرة، جمع إلى نوره لظىً من (كريتر)، وتلاقى في فتحة فمه شجى العذب وشفق المالح.. تشرّب من (المحسنية) مبادئ المعرفة وأصول الغناء، وأخذ من (المدراسي) معاني الترتيب والتأنّق، والوفاء.

كريم نبتةٌ من (تُبَن)، وادي المعرفة الأول، تعهدها صلاح ناصر كرد، وشذبها فضل محمد اللحجي ومحمد سعد الصنعاني.. هو صوت (الندوة اللحجية)، منها صدح بأولى أغانيه: (يعذبني الحبيب دايم)، الأغنية التي أجلَت مَلَكة سالم النوبي شاعراً وملحناً.

أداء عبدالكريم متميز، لايشبهه أحد، يصحُّ فيه قول الأعراب «هو نسيج وحده». ولا أحسبني مغالياً إن قلت إنه هو الذي يبرز مستوى الملحن ويحددّه، بل وهو الذي يمنحه البراءة.. من أراد اختبار مقدرته على التلحين، فعليه بصوت عبدالكريم.

من على حنجرة (المَرْخ) أطلّت شخصية عبدالخالق مفتاح في رائعته (بالعيون السود) شاعراً يدرك سرَّ القصيد، ويتقن فنَّ توظيف الروي في خدمة القافية، وألفيتَ بنت الصنعاني تسير في الجمال كأنها ليلة مقمرة خَلَت من الغيوم والهموم، تناهى إليها حُسنُ الطبع والمعْشَر، واجتمع الوقار والجمال.. وفي (ظبي الجنوب) لقيت مفتاح شاعراً حلو المعاني، رفيقاً بالغواني، ولاقتك الكُرديّة نغمة آتية من فضاء بعيد.

من على صبابة (المرخ) أعلنت الندوة اللحجية فرمان الهوى العبدلي حيث لاتجُوز القطيعة و (عَرْقَبَة) المُحِب:

ذا حالي السلوب/ يسبي القلوب من لحظه يذوب/ ماشي له عيوب

كم يمسي المولّع في حبّه يلوب منّك كيف توب، يا ظبي الجنوب

بالوعد المُعَلـَّق / عذبني الهَلي قلبي كم تحـرّق / ليلي يصطلي

ما يرضى بهذا شرع العبدلي

في (لوعتي) رأيت صاحبة باجهل «مُشبِعةَ الخلخال جائعةَ الوشاح» كصاحبة عمر، تتثنىّ دلالاً، وتتسكّب أنوثةً واختيالاً بانسكاب وتموجات صوت المغنّي، يفوح من بُردها عطرٌ وزعفرانٌ وعنبرٌ أصليّ كالذي ضمّختنا به (بنت الصنعاني) في عُرس والدها.

وفي (محلا خصامه حبيبي) لمست مقدار ذاك الدلع والفنَق الذي كانت عليه مُخاصِمة عيسى، تموجُ في تساوق النغم وتهدُّله، هيفاء لفّاء تلقي من جفونها سهاماً لا تُرَدّ:

ما ردْ بيدّه السلام برمش عينه سلامه

وزاد فيها ابتسام والقلب فَلَّتْ زمامه

ولقيتُ (سعودي) حطاماً من نغم، أدمته السهام، وعجبت كيف دخلَ هذا الملحن النحيل محراب الشاعر فاستحال إلى مُرنِّمٍ بدّاع آخر حتى كدتُ لا أفرّق بينهما، ثم التحق بهما عبدالكريم واتحد، فخشيتُ على (جماعتنا) من الحسد.. هذان اللحنان هما عنوان للطرب اللحجي المتقدم (Advanced Singing)، الطرب الحي الذي تميّز به غناء توفيق إذ هو يقدم دليلاً ساطعاً على حركية في الذهن، ونموّ في الذوق، وانفتاح وتطور.

وفي (يواعدني) ألفيت موسيقار لحج فضل محمد اللحجي عبقرياً آلف الغزل بالأزل.. ووجدت نصيب يتمشّى في ظلال حنجرة (المرخ)، شاعراً فذاً ذا أسلوب بسيط لكنه حلو:

يواعدني وينساني ولو مرّه غلط جاني

وبكرة عذر له ثانِ / ونا صابر، وأشجاني/ تقول لي: لا متى بكره؟!

في أغاني عبدالكريم جميعها هنالك مساحاتٍ زمنيةٌ ودورٌ لكلّ آلة، للعود صولةٌ، تمشي أوتاره على مضمار الزمن مشيةَ صاحبة الأعشى «لا رَيثٌ ولا عجِلُ»، وللكمان صولةٌ، يسيلُ منه النغم لذيذاً سيلان (الحَل والعسل) من المشبّك الوهطي، وللناي صولةٌ، تُذكّر بسرّ الخلود الجبراني.

غناء عبدالكريم كورالي رفيع، فيه إطراب، وسلطنة، وتعملق على غرار سيد مكاوي، لو أنه خلا من ياليل يا عين.. ومن مآخذنا عليه استعجاله، وغمطه الكورسَ حقَّه.

ويحسن عبدالكريم، غالباً، اختيار النصوص، وقد أحسن إذ جمع أحلى أغانيه طعماً وأحسنها هيئة في شريطين.. إنه عمل رائع مشرّف ينبغي تسجيله على (سيدي) وتوزيعه.. سعدت كثيراً بالاستماع لهما، و(ركبني) العرق اللحجي فأهديت منهما نسخة لصديق أحبه.. هل لنا بمن يوصل نسخة من هذا العمل إلى سوق بيروت؟ بمثل هذا تستطيع اليمن أن تنافس في مهرجانات الأغنية العربية الرئيسية.

عناصر عبدالكريم مبثوثة في أربعين أغنية أو تزيد، ينبغي تدوينها موسيقياً ونشرها في كتاب، وإذا شاء الوزير المفلحي لنفسه مجداً أدبياً فدونه عمل هذا العملاق.

إني أسمع أودية اليمن تصفّق طرباً لغناء هذا اللحجي الأنيق، وتُرَجِّع الأعبار صدى قبلة الابتهاج، وأرى بنات الشعر اللحجيات يُحيينَ عرس عبدالكريم، سلطان الطرب العبدلي.

لقد عوّض الله بني حام عن خَضَارهم (سوادهم)، فزادهم في الحبّ وفي الصوت.. هنيئاً لإخوتنا ما أُعطوه، ولتهنأ بهم لحج ذِكْراً وفكْرا.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى