الشاعر السقاف.. في رحلة الشعر الصافي

> «الأيام» أديب قاسم :

> كان شعراء نهاية القرن الماضي، وبخاصة جيل الشعراء السبعينيين، يمرَّون بفترة تميزت بالتغيير اللاهث، لم تستقر فيها القصيدة على شكل ما، ليأخذ فترته الزمنية، حتى ينتقل إلى غيره أو يلبث في مكانه، بعد أن يستوفي النضج والسيرورة الزمنية الكافية.. فترة دأبت على التجريب وبشكل متسارع.. وانطلاقاً من الستينيات كثرت الاتجاهات الفكرية، وفي كل حقبة قصيرة يظهر جوُّ فكري وفني جديد تماماً: في الفلسفة، في السياسية، في الفن، في الأدب.. وفي كل مرة- على قصر تلك المرات- يظهر اصطلاح واحد اسمه «الموجة الجديدة» تنقل فيها الشعر بدءاً بالشعر الحر (المرسل) Vers Libre الذي شكل أساس الشعر الحديث، بين القصيدة التفعيلية، القصيدة المدورة، القصيدة النثرية.. وإلخ، وبعضها أضفت على الميثولوجيا طابعاً حديثاً بأسلوب المغايرة.. وكان على الشاعر أن يعرض في قصيدته ويخضع لهذه التغيُّرات.

وخلالها تجرّّّّد الشعر ومرّ في خضم إشكالية كثيرة الدهشة، بل الصدمة، ولدرجة القطيعة بين المبدع والمتلقي.. وغرقت القصيدة في غموض مكثف.. وكالموسيقى صرّح البعض بأن ليس من الضروري أن تقول القصيدة شيئاً.. وسرى هذا التعاطي مع قول (أبي تمام)، حيث قيل له: لم لا تقول ما يُفهم؟ فجاء رده: وأنت لم لا تفهم ما يقال؟.. أو كما رأى أحد الشعراء في الغرب: «لا يهم أن تقول القصيدة شيئاً، بل ما يهم هو أن يكون لها وجود»، وبدلاً من أن تدور على شيء، أرادت هي نفسها أن تكون شيئاً.. أي أن القصيدة غدت تعطي إيحاءات وليس معنى محدداً أو إحساساً معيناً طالما انتظرته مع نهاية كل قافية أو عند كل فاصل شعري.. إنها جدلية البحث عن المعنى في السكون والصمت والماورائية.. ودخلت القصيدة في «عزلة» عن محيطها القرائي.

إن فترة الستينيات من القرن العشرين وما بعدها هي فترة لهاث في كسر سياج اللغة بحثا عن تعبيرات لتحطيم دائرة المألوف في الصياغة اللغوية للقصيدة المأزومة بالتكرار من ضيقها بالمساحة الزمنية التي استهلكتها وأمضى فيها الشعراء إلى درجة الملل من تكرار الشيء نفسه!.. وكل هذا كان- على الأرجح إن تجاوزنا لافورغ ووالت هويتمان- قد انحدر من إليوت T.S.Eliot، وفي مقدورنا أن نفهم ذلك مع بروز المرحلة الجديدة في الشعر، كذلك حين قال في إحدى مقالاته عام 1920:«أهم لغة لدينا هي تلك التي تبذل جهداً في سبيل التمثل والتعبير عن الموضوعات الجديدة، والأصناف الجديدة من الموضوعات، والمشاعر الجديدة، والأوجه الجديدة» حتى انتهى إلى القول فيما يتصل بعملية البناء الشعري وعملية الاتصال: «إنه من المستحيل أن أقول ما أعني!». على هذا النحو شطح الشعراء المجددون أو الحداثيون بعيداً، البعض، إلى درجة الشطط. والبعض الآخر (القليل) اجتاز التجربة إلى الحد المعقول الذي لا يجافي طلب «المعنى» في القصيدة، وهو أن تقول «لنا» شيئاً.. شيئا يحرك العاطفة أو ما وراء العاطفة من شعور مستكن أو تطلع مستور.. إلى قول شيء خفي ظل مستعصياً على الكلمات؛ أي مفردات الشعر العادي.. بل وقد اجتازوه إلى ابتكار الشكل الجديد الحداثي، ثم ما بعد الحداثي، وما فوق الحداثي.. إنها الرغبة في التجدد وتحقيق النقلة إلى عصر جديد من طريق تفجير الرؤية عبر تحطيم الجذع القديم لشجرة اللغة.. ولتدخل القصيدة أو اللغة بوجه عام في فضاءات جديدة بالغة القصد والثراء، تتخطى البعد الزمني إلى مدارات لم تكن معروفة، غير أنها في الوقت نفسه لا تجنح إلى «العزلة» فتتجافى عن حاجة المتلقى إلى الاتصال بها، وهو نوع من الغموض الشفاف والوضوح غير المنحل بالعمل الفني!

وكانت الحاجة هنا إلى ملامسة الروح التي لم يقف لها الإنسان على كنه لمدركاتها، والتي ربما تنتظر من يكشف عنها الغطاء مستقبلا.. فمن ذا الذي يستطيع أن يكسر عُذرية اللغة بدون دنس؟

وفي هذا تكمن الرؤى الصوفية أو المتصوفة، التي تحلّق وتسبح خارج ضفاف الجسد ومتعلقاته الأرضية- على أن تبقى مسألة الإيمان بقيمة الإنسان وكرامته هي مجال القصيدة الحيوي.. وحيث إن «كل ما يقال أو يكتب» إنما يتوجه به باعث النص إلى الإنسان الذي مازال يزحف تحت الأعاصير، وليس للشاعر منه مهرب!.. ولعل هذا الشيء المرجو للإنسان ويتوق إليه الشعراء والقاصون وكل من يعمل في حقل اللغة داخل مجالاتها الإبداعية، يتم من طريق إعادة تركيب الحروف.. ولكنها عملية شاقة ما لم تتصل بالأحاسيس الإنسانية في علاقتها بالحياة وبأبعاد هذا الكون الشاسع بما فيه من أشياء كامنة.. مناطق لم تصل إليها اللغة لتعمّرها فتشكل منها وجودية جمالية قد تخرج قليلاً عن مظاهر الطبيعة البشرية وما هو أبعد من مجرد تغيّر العصر!

في هذا الجو الحافل والملبد بالغيوم بكل امتداداته في الزمن ظهر الشاعر الكبير عبدالرحمن السقاف، وقد بدأ في إظهار تجديدات أسلوبية، وحساسية جديدة قبل كل شيء، وهي أبسط ملامح الحداثة من الناحية الجوهرية، وذلك بالابتعاد عن «الكليشيهات» الجاهزة، وكذلك عن الصور والمشاعر المجردة، وذهب إلى التجارب المعاشة المحددة المألوفة.. على أنها سرعان ما تبلورت في تيار شعره الذي يظهر مجددا لرؤية ولمفهوم اللغة، اللذين أخذ التركز حولهما الجزء الأكبر من الهم التعبيري عند السقاف مثلما عند غيره من شعراء الحداثة، أي مجايلية، وهم يشكلون اليوم أصواتا بالغة التنوع، وكلها انشقت من ذلك التيار الشعري الواسع لحقبة (الستينيات - السبعينيات)(*): الشعر الحر، وإلغاء القافية، واستخدام تكوينات جديدة طباعية مجسِّدة لغة الشاعر الخاصة، وحرية الابتكار المجازي، واستخدام اللغة الدارجة والنزعة النثرية، وإثراء اللغة من طريق السريالية.

كان السقاف واحداً من القليل من الشعراء الذين قاموا برد فعل ضد جوانب معينة من الحداثة من أجل تصحيح التجاوزات أو العيوب، وقد سمي هذا (ما بعد الحداثة)، فيما نزع آخرون من حوله إلى نوع من الحداثة في الإبداع الفردي وحرية الفنان نافين ومحطمين الماضي، وهو بما يتعدى قطع الصلات بالماضي الذي وقفت عليه الحداثة Modernism في أول أمرها وهي تبحث عن أشكال من التعبير جديدة.. وقد سمي هذا الاتجاه (ما وراء الحداثة) أو الحداثة المتطرفة Ultra modernism.. ويبقى رد فعل السقاف متميزاً من البحث عن البساطة والنقاء الشكلي والحميمية الغنائية التي تتقاطع مع السرد الدرامي. وهكذا ظهر في التنويعات المعتدلة للذوق وللموضوعات.. فالشعر عنده قد شكل تطوراً عضوياً ولم ينقطع عن الاستمرارية.. وهكذا نشأت لديه حساسية ضد الأشكال الحداثية المتطرفة، وذلك بفضل أصالة وقوة موهبته الشعرية حيث يتدفق الشعر بصورة طبيعية.. ثم ليدخل في ميتافيزيقيا الحواس من استطلاعه للرؤى الدينية في مسار تجربته الروحية، وهو مما أضفى حيوية وتـألقاً أكبر على نظمه وعلى لغته الشعرية عموماً.

انبعاثاته في التسعينات

وإذ نطرح مثل هذا التساؤل: ما هي العناصر الرئيسية في رؤية عبدالرحمن السقاف الشعرية التي بوسعنا أن نستنبطها من أسلوبه في الشعر؟ نلاحظ أولا إسباغ الدراما على القصيدة الغنائية مهما ضؤلت. وهو في الأصل شاعر غنائي ذاتي، غير أنه منسرح الوجدان خارج دائرة (أفق) التهويمات الغنائية لاسيما في حالاته الذهنية التي تعبر عن «موقف» من الأحداث بما لها من أثر قوي في الحياة وهو ما يمس التجربة العامة، وبالانتقال من الذات إلى الموضوع، وانعكاسات هذا الأخير على التجربة الشعورية العامة، ندرك أن الوعي بالذات يتحرك في إطار تجربته الإنسانية.. فيكتب:

أنا وحدي..

تجمّعَ في دمي النشوانْ

قافلة من الضعفاء

وكل قوافل الحرمان

وقد صلّت بقافيتي

جموعٌ لست أنكرها..

على الأوزان:

شيوخ خضر/

وأطفال بلا لعب وأمطار/

نساء لست أنكرهن/

بلا مأوى ولا دار /

شبابٌ من دم الورد

بلا حلم ولا وعد/

وجوعى لست أنكرهم

أحبّوني على القربِ وفي البُعدِ

(مقطع من قصيدة «ومن صلَّى معي.. بعدي»، من الديوان المخطوط «غزال الروح»)

إن أبيات هذه القصيدة، وهي من الشعر المرسل، بنبرتها المسترخية الشبيهة بنبرة الحديث، تتحدى النثرية عن قصد، قد جعلها الشاعر توضيحاً لموقفه من الحياة، فجاءت عبارة عن غنائية أو سرد درامي- الدراما فوق الرمزية والسريالية- وفيها ضربات (مدبّبة) حادة ينزلها السقاف ببعض نواحي الحياة اليمنية (في عدن).

ويقدم لنا السقاف قصائد كثيرة، في هذه الفترة ما بعد 1994، عارية أو غير عارية تماماً من الحيل البلاغية.. ومع ذلك نجده يتخطّى حاجز الواقع والنفاذ إلى ما وراءه، حيث نجد كثيراً من الشخصيات المفعمة بالبؤس والحزن.. ويتألم حين لا يجد العالم يبدي مع هذه الشخصيات أقلَّ تعاطف.. وفي هذا نجد نزعة غنائية تنبع من الأرض- غنائية مكثفة وعميقة:

من ذا يصدق أن المدينهْ

نامت بعُري الشوارع

من ذا يصدق أن الطريق..

يفضي إلى حائط للبكاءْ/

أن (الحوافي)..

شيخٌ يدبُّ بأيامه..

يذكر شتلاً نما في العيون/

بحراً يشدُّ القلاع بنخوهْ

في ضجيج الفتون

***

من ذا يصدق أن المدينة

فرّت من القلب..

حتى رصيف المساء الأخير

أن خطى (الزعفران) و(حافة حسين)

اختفت بليل الرحيل

في احتضار الهوى

والشجار الجميلْ

***

من ذا يصدق أن القلاع

حاصرتها (القبيلة)/ الهموم

غادرت زهوها.. والجبال

صدرٌ يئن بليل السّعال

من ذا يصدق أن المدينهْ

نائمةٌ..

ما استفاق بدمائها اشتعال الرجال

(من قصيدة «اشتعال الرجال») يتبع

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى