الشاعر السقاف.. في رحلة الشعر الصافي

> «الأيام» أديب قاسم :

> إذن، ليس من الصعب تفسير أعمال الشاعر مهما حلق بعيداً.. وحيث إنه مازال ينطوي على (نفس) لها كل ما للإنسان، إلا أنها قد تنطوي على إشراقات نبي من اقتحامه لطرق تبعث على الرهبة.. أو من افتتاحه لفضاءات جديدة بإشراقات تتيح مجالاً للرؤية تفضي إلى عوالم سعيدة طالما ظلت الكلمات تعجز عن تحديدها أو بيانها وكشفها للنفس الإنسانية المأزومة.. وهذا ما يبعث على انبجاس الرؤية التي دفعت الشاعر وحتى القاص في ظل التراكمات التي جعلت تضغط بشدة، فأوفت إلى ما غدا يعرف بشعر الومضة (بكلمات قليلة تستطيع أن تقول أشياء كثيرة وجميلة، وربما أيضاً مخيفة بالقدر نفسه الذي يحمله جمال التعبير أو قوة التصميم في العبارة وقد تجاسرت على الشيء المغلق).

البعض قد وجد ذلك في العودة إلى المظهر البسيط للغة (القصيدة السالفة الذكر)، وكذلك حيث تتعرى كلمات الشاعر، إذ يفتش عن (رؤية) تنبجس في هذا الكشف:

تمتثلين..

وأنا الشارد

.. أبحث عنك

ما بين الفلوات

أو بين الصلوات

وأطوف زوايانا

حين الهجس بداخلنا

ورداً كان

يا.. تسبيحة حب لا يفتر

.. وأنا لست نبياً

لكني أشبهه في بعض الحالات

وأقول له: الغوث الغوث!

كي أتماسك

وأقوم سوياً

رغم بكائي في الكلمات

(قصيدة «هجس»)

إننا نسمع صوته الداخلي، وإشفاقه على نفسه، وسعيه المعذب، ومع انبجاس هذه «الرؤية» وقد تجلت في الدعاء لنصل إلى هذه القصيدة في ومضتها الصوفية!.

وفي هذا كثير من الإشراق.. وما عدنا نجد كثافة الوصف مع زحمة الكلمات، لنقول إنها مجرد ادّعاء وتظاهر.. وبتعبير النفّري: «كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤية».. فأصبحنا نحيا في عالم روحي مكثف ومضغوط يبرز في غنائية مكثفة وعميقة.

وكان لدى المتصوفة كثير من هذه التعبيرات التي تخترق المحجوب.. وتقذف بنا إلى مسافات زمنية لم نكن نقدر على بلوغها بوسائلنا الخيالية العادية.. ومثل هذا الذي نجده عند الشاعر عبدالرحمن السقاف في موسيقاه السماوية وقد أبصر بالعالم الآخر كما أبصر به حلم النبي يعقوب عليه السلام في السلالم الفضية التي يصعد عليها الملائكة إلى أرض شديدة الاخضرار وفوقها سماء شديدة الزرقة.. وهو (السقاف) يجتذبنا بروحه إلى ملكوت السموات ليضعنا في قطرة واحدة أرواحاً أو روحاً كلية، في هذا الصعود الديني:

أحمل بيدي..

في رحلتي الصافيه

إلا.. من نور الكلمات

برهان الروح المتّسعه

.. أما.. من يدفع بي في تلك القطرة

فأنا أدفعه معي

لملاقاة محيطاتٍ أبديه

وأقول له:

أرجو أن تفهمني!!

...

...

...

(قصيدة برهان)

وإذ نحن نفهمه بغير لغة (...) وحياً.. وكما تدرك الروح مصدرها.. أو كما تستوعب القطرة سر الأجواء التي هبطت عبر سلالمها وكلما صعدت، وقد استوعبت بداخلها سرَّ المحيط.. فذلك لأنه لم تعد هناك ثمة كلمات بأجسادها المادية بل شفيفها النوراني المنفتح على محيطات اللانهاية.. وهذا هو الشعر المتفتح عن الحب الصافي المنبعث من صفاء الروح التي تلف عوالم كونية لا يدركها البصر وقد أدركت الجوهر!

تبدو قصيدته هذه، بل جميع «ومضاته» المتأخرة وكأنها تنطلق وتحلق في الأعالي.. وهي تفعل هذا لأن الكلمات قد تخففت من ثقل وزنها المادي، ومن مداومة النظر أو التفتيش وراء المعنى الملتصق بعيوننا البشرية رهن مشاعرنا أو تعبيراتنا الفجّة العادية.. ولقد تأكد ذلك عند (السقاف) لما كان يستقي موضوعه أو حدسه الشعري من التوتر الذي يعيش فيه، والذي يؤكد ذوبانه في القصيدة ذوباناً يذكرنا بالغناء في الذات عند الصوفيين.. وهذا ما يؤديه العمل الفني الجيد: إنه يخلق أبعاداً جديدة.

وبتعبير «أوسكار وايلد» (وهو من أعلام المسرح التعبيري):«إن إدراك كلٌ منا لحقيقة مطلقة لا يمكن إلا أن يكون داخلياً ذاتياً - غاية في الذاتية».. ويصبح الوعي بالذات من خلال إدراك حقائق الكون الروحية التي اعتاد الإنسان «مغالبتها»، وهو حين يضعها خلفه بسبب قلقه من فكرة الحياة والموت!

غير أن السقاف في شعره المتأخر حصيلة سنوات من التوتر (تحت تأثير معاناته الشديدة وتحت وطأة مرضه وكلنا في الهم شرق) قد أخذ يعمل على اقتناص الحقيقة من خلال بحثه في المطلق فيما يقوم بينه وبين أهله ومحبيه ومجتمعه والناس عامة من علاقات.. هكذا نشأ يربط حياة الناس في إطار ميتافيزيقي هو أقرب إلى الرؤى الصوفية من اندماج الجزء في الكل لينتهي إلى الوحداينة، ومع تنزّه الذات الإلهية. وحيث تدين هذه الومضات بموضوعها أو بأحاسيسها «الفياضة» لفكرة واحدة، وهي «أنّ على الإنسان أن يكون «محبوباً»، وهذا الحب هو الغاية الأسمى للحياة:

أتى الزمان مع الزمان

معك أنت ياحبيبي لا زمان

بالوصل استوى عندي المكان

ولغيرك أنت لا مكان

حتى العذول أحبُّه إنما كان هو امتحان

(قصيدة الماسة)

***

ومشى الركب

وتولى من تولى

واعترض

وقليل همو الذين قالوا:

نحن نحبك

لوجهك أنت

زرعنا المحبة بين البشر

***

فكرته، أن جعل من ذاته محور ارتكاز، تشع من حوله العوالم حتى تشمل الكون في الأبدية.

وهكذا تجتمع لديه النظرة الإنسانية والنظرة الدينية كمعادلات موضوعية للحياة. وهذه هي قمة الحياة الشعورية.. وهي ليست إلا من تجليات الروح بعد أن تتخطى الحياة المادية.

وفي هذه القصائد من نوع «الومضة» ينبعث السقاف من حيز النثر الذي جعل يغالب المدرسة الحداثية من حيث هو أقل طرق التعبير حساسية إلى منطلق الشعر.

إنه يمارس علينا من خلال القصيدة اتجاهاً تأثيرياً، بل تجريدياً يوصلك إلى الحقيقة ليس بالمنطق ولا بالأدلة الواضحة. (انظر في قصيدة «برهان»)، أو التشبيهات.. بل بأشياء لا يجيدها غير الشاعر!.

ولكننا حتماً سنصل إلى تلك الحقيقة المدرجة في الروح (إذا نظرنا داخل نفوسنا- وفي معبد دلفي وجدت هذه الحقيقة مكتوبة على بوابته :من عرف نفسه فقد عرف ربّه).. وذلك لأننا نشاركه الامتلاك لبواطن الروح التي خرجت من نفس واحدة.

ومن المواضعات التي يجب أن نقف عندها أن لهذا «الصفاء» في الدلالات اللغوية الصوفية على تطلعات «النفس» إلى البساطة.وكقول الإمام علي كرم الله وجه:«العلم نقطة وسّعها الجاهلون».. مغزىً صوفياً حيث يذوب كل شيء في هذه النقطة، وقل: في هذه الوحدة.

الكلمة الأخيرة

في هذه المرحلة الأخيرة (فواتح القرن الواحد والعشرين) كان الشاعر عبدالرحمن السقاف قد تكوّن وتحدّد. كان لتوّه قد فرغ من الاشتغال بالعمل التجريبي.. وفرغ تماماً لإنتاج ذاته وتحديد الموضوع بطريقة تلقائية، ولم يعد يخضع للمراجعة وإعادة بناء القصيدة. وكما قال أحد كتاب السوناتة في الغرب - وهي قصيدة غنائية تتألف من أربعة عشر بيتا - : إن بيتين يهبطان من السقف، وإن بقية الأبيات تأتي لتساير هذين البيتين.

فالشاعر (السقاف) غدا في حالة اكتفاء بالبيتين اللذين يهبطان من السماء، وقد امتص فيهما كل ما له لزوم في بقية الأبيات وترك ما ليس له لزوم، فجاءت قصائده تحمل عناصر صافية، أي (مميزة)، علاقات المعاني فيها كالعلاقات الهارمونية.. تحوُّل الأفكار فيها إحداها إلى الأخرى متسق تمام الاتساق تمضي نحو أداء موسيقي تلقائي للعروض والإيقاع. ومع تطور معاني الكلمات ودلالاتها semantics تخلق بنية حقيقية للشعر لايظهر فيها شيء مما يدخل في النثر الأقل حساسية من كل جوانب اللغة.

لم يعد الشاعر ينشغل بعلوم البلاغة والمعاني وعلوم النحو والصرف.. بل تتنزل عليه القصيدة - إن شئت الدقة والثبات في طبيعة هذا الشعر المصفّى.. ولا يكون هكذا خالياً من المغزى.

ومن المؤكد أن القراء، بل القارئ العادي قد لمس في شعر السقاف عبدالرحمن رقة الشعر والغموض المحبب.. قد يجدونها - على بساطتها- أشبه بصور الأحلام، أي صور تحتشد في العقل اللاواعي تعجز عنها الكلمات.. غير أن البعض (الحصيف) يرى أنها رموز، وهو الشيء الطبيعي في الشعر، ولأن الرمزية هي ميدان الحساسية الشعرية.

فالسقاف - إذا دققنا في الأمر - ما هو إلا شاعر إنسان يتجلى الآن بعقله الصافي الطيب، وجمال روحه الطاهرة:

وأنا لست نبياً

لكني أشبهه في بعض الحالات

.. بلى، لقد مرّ بالمطهر الشعري.. فخرجت كلماته (النورانية) بنقاء البلور المتوهج بإشراقات سعيدة.

هامش

(*) نلاحظ شبه إجماع لدى النقاد العرب، وفي مقدمتهم الناقد العربي الكبير الدكتور عز الدين إسماعيل، على أن جيل السبعينيات هو أهم إنجار منذ بداية الحركة الشعرية أواخر الأربعينيات - أي بعد جيل الرواد الأوائل. وعليه فقد ترسخت هذه القاعدة النقدية: إن شعر جيل السبعينيات هو «الحقيقة» التي أفرزها الشعر منذ عقد الخمسينيات من القرن العشرين.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى