شعرية العنوان.. في مجموعة (أكثر من اللازم) لسوسن العريقي

> «الأيام» سالم عبد الرب السلفي :

> حينما أسمحُ لنفسي/ أن أكونَ نفسي/ أتفاجأ/ بأنَّ الوردَ على الشرفةِ/ تبسَّمَ/ أكثرَ مِنَ اللاّزم/ والليلُ في واجهةِ المدينةِ/ تأخرَ/ أكثرَ مِنَ اللاّزم/ والقمرُ في مائدتي/ اقتربَ/ أكثرَ مِنَ اللاّزم/ لذلكَ قررتُ/ أن أسمحَ لنفسي/ أن أكونَ نِصفَ نفسي/ حتى لا أُحسَّ الأشياءَ/ أكثرَ/ مِنَ/ اللاّزم..!!.

هل نحن نعيش بنصف أنفسنا، فنرى الأشياء في أوضاعها الاعتيادية (اللازمة)، فإذا اكتملنا رأينا الأشياء أكثر من اللازم؟ هل يرى رجلُ الدين ذو النفس المكتملة المفاسدَ والمعاصيَ أكثر من اللازم، فيجهر بالدعوة لمحاربة الفساد أو انتظار عذاب الله الأليم ويوم القيامة العظيم؟ هل يرى الفيلسوف ذو النفس المكتملة أن الجهل قد صار أكثر من اللازم، فيجب محاربته؟ هل يرى العالِم ذو النفس المكتملة أن العالَم على حافة الهاوية بسبب التلوث والانحباس الحراري وثقب الأوزون؟ وهل يرى رجل الاقتصاد ذو النفس المكتملة بداية زوال الجنس البشري بسبب ازدياد الفقر وارتفاع أسعار الغذاء وانتشار المجاعات واتساع الجفاف؟ هل مشكلتنا الحقيقية أننا نعيش في نفس مكتملة؟ ماذا إذاً لو أننا عشنا بنصف نفس؟ ألن يكون هذا أجدى؟ ألن يرينا هذا الأشياءَ في أوضاعها الطبيعية؟ ألن يكون هذا سبيلا إلى الراحة والهدوء والاطمئنان؟.

كيف الأمر بالنسبة إلى الشاعر؟ أليس الشاعر هو صاحب النفس الكاملة، وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل، وهذا الكمال هو الذي يجعله يشعر بالأشياء أكثر من اللازم، ولذلك سُمِّيَ شاعرا؟ ولكن هذا الشعور الأكثر من اللازم بالأشياء- جميلة كانت أم قبيحة– يمثل عبئا على هذه النفس، وقد تكون سبب هلاكها. إذاً فالشاعر يرى الأشياء أكثر من اللازم، فيعبر عنها بلغة هي أكثر من اللازم، وهذه اللغة الأكثر من اللازم هي مناط الشعرية ومدار الأسلوب الشعري.

يُعَرَّف الأسلوب بأنه عُدُول عن أصل، وبأنه إضافة إلى تعبير محايد، تنقله من الوضع الاعتيادي إلى الوضع الشعري. ويمكن أن نرى تجلي هذا التعريف في عنوان المجموعة الشعرية الأخيرة لسوسن العريقي. وإذا أمعنا النظر في العنوان وطريقة تصويره على الغلاف سنجد أن عبارة (أكثر من اللازم) كتبت بخط بارز أماميّ، وفي خلفيته كتبت كلمة (اللازم) وحدها بلون أسود، بحيث يبدو لنا أن (الأكثر من اللازم) هو عدول عن (اللازم) أو إضافةٌ له، ومن هذا العدول وهذه الإضافة يَنْتُج الشعر، فالذي يُنْتِج الشعر هو هذا (الأكثر من اللازم)، أما (اللازم) فلا يُنْتِج شعرا.

و(أكثر من اللازم) هو عنوان قصيدة واحدة في المجموعة من ضمن 23 قصيدة. وقد اختير هذا العنوان ليكون عنوان المجموعة كلها، وهو اختيار لم يأت عبثا؛ فهذا العنوان هو الخيط الناظم للشعر وللرؤية الشعرية في المجموعة. فأما نظمه للشعر فيظهر في اجتراح تعريف جديد للشعر نستشفُّه من العنوان، يتمثل في أن الشعر هو (اللغة مستعملةً أكثر من اللازم)، وهذا الأكثر من اللازم ينطبق مثلا بوضوح على تقنية (التكرار) التي هي مقوِّم أساسي من مقومات الشعر، وعند الناقد الغربي شتايجر أن «ما يحفظ الشعر الغنائي من خطر التحلل إنما هو التكرار»، والتكرار هو كلام أكثر من اللازم.

وأما نظم العنوان للرؤية الشعرية فيظهر في أن معظم قصائد المجموعة تدور حول فكرة أن (الأكثر من اللازم) قد أتعب الذات الشاعرة، حتى إنها تقرر في النهاية أن تتخلى عن هذا الأكثر، وتقنع بحدود اللازم! سنجد هذه الرؤية في عنوانات بعض القصائد، ففي قصيدة (عين سحرية) سنجد أن العين السحرية تقدم واقعا أكثر من اللازم، في مقابل العين الحقيقية التي تقدم واقعا لازما. وفي قصيدة (مقاس عربي) سنكتشف أن المقاس العربي هو مقاس أكثر من اللازم، في مقابل المقاس الأجنبي، أو على الأقل في مقابل المقاس الذي ترتضيه الذات الشاعرة: لكني أتعثر/ بأزمنتك الظامئة/ إلى إعادة صياغتي/ على مقاسك.

وفي قصيدة (!) نجد أنفسنا أمام علامة الترقيم التي تدل على التأثر والانفعال الأكثر من اللازم، فهذه العلامة هي العلامة التي توضع نهاية التعبير الذي يؤثر في المتلقي أكثر من اللازم، من حيث إنه تأثير فاعل وممتد، فقولنا: «السماء جميلة» تعبير عن انفعال لازم، وأما قولنا: «ما أجمل السماء!» فهو تعبير عن انفعال أكثر من اللازم، ويمكن الوقوف في نص (لايعد أصابعه) لننظر كيف أن هذه العلامة تعبير عن الانفعال الأكثر من اللازم: يا للوحشة..!/ حين يُكمل الصمتُ حديثَه/ في الأعماق/ ويعتصم الغضبُ بحبل الخطيئة/ فلا يعدُّ أصابعه/ من فرط التسبيح..!!/ يا للدهشةِ..!/ وسؤالك يحتضن/ تداعيات الجوابِ/ الجوابِ الذي صمت طويلا/ فقرر ذات يأس/ احتمال الصدى/ بدون جدران..!!/ يا للفجيعة..!/ والقلوب التي توهجت شعرا/ ذات يوم/ هي نفسها التي تنسج/ من الاتهامات بحرا/ لتغرقك فيه/ من دون استئناف..!!. فالوحشة والدهشة والفجيعة هنا كلها أكثر من اللازم.

وفي قصيدة (ضوء الكلام) سنجد أن (الذات) تنتظر انبلاج الكلام (اللازم) من فم (الآخر/ الموضوع)، لكنها تقابل بما هو أكثر من اللازم: (الصمت) في طرف، و(الصراخ) في الطرف الآخر. وفي قصيدة (تجاهل) نشعر أن هذا التجاهل أكثر من اللازم؛ لأن المشاعر التي تجوهلت مشاعرُ ضخمة أكثر من اللازم، وليست مشاعر اعتيادية: ها أنت تنوء بمشاعري/ وتركنها في محيط التجاهل.

وفي قصيدة (كف لاتكتفي بالمصافحة) دلالة واضحة على أن هذه الكف تريد أكثر من لازم المصافحة! وفي قصيدة (رمضان أرض محايدة) سنجد أن الذات تفضل الحياة في هذا الحياد (اللازم) لتشعر بالراحة والاطمئنان والسكينة، في حين أن ما قبل رمضان وبعده أراض غير محايدة، وفيها الأشياء السلبية الأكثر من اللازم، كالوحشة والشرور والنفاق.

سأكتفي بهذه القراءة السريعة لهذه المجموعة اللافتة العنوان، وأتمنى ألا تركن الشاعرة إلى اللازم وإلى العيش بنصف نفس، بل عليها دائما أن تتصيد الأكثر من اللازم والعيش بنفس مكتملة؛ لتضمن نماء شاعريتها واستمرارها.

أستاذ الأدب والنقد المساعد في كلية التربية جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى