بعد أن غلبت الحسابات السياسية على الحسابات الأخرى.. حكاية المحطة الساحلية للاتصال بالبواخر (عدن راديو)

> «الأيام» ناصر علي داعر:

> في عام 1994 توقفت عن العمل المحطة الساحلية للاتصال بالبواخر التابعة للمؤسسة العامة للاتصالات في عدن جراء التدمير الذي أصاب أجهزتها في محطة الإرسال بالحسوة خلال حرب صيف 94م.

وبتوقفها اندثرت مفخرة من مفاخر مدينة عدن، وأهم معالمها في مجال الاتصالات الدولية التي أكسبتها احترام وإعجاب العالم، بل لا أكون مبالغا إن قلت إن كثيرا من هواة الاتصال بالمورس في شتى أنحاء العالم تعرفوا على عدن ومجتمعها المدني عن طريق الاستماع والتواصل مع محطة عدن الساحلية.

ولم تخسر عدن شهرتها العالمية كمشغل كفؤ للاتصال البحري فحسب، بل إن الخاسر الأكبر كانت عدن وميناء عدن واقتصاد المدينة القائم على خدمات السفن والتجارة.

وكان بالإمكان إصلاح ما خربته الحرب وتعويض ما نهبه الناهبون، وإعادة العمل في المحطة، خاصة أن المحطة كانت تشكل مصدرا مهما من مصادر الدخل بالعملة الصعبة للمؤسسة العامة للاتصالات وبالتالي للدولة، إضافة إلى وجود الفنيين العاملين فيها، وعدم تأثر موقع التشغيل للمحطة وسلامة الأجهزة والمبنى في محطة الاستقبال في رأس بردلي.

كان بالإمكان إعادة تشغيل المحطة من النفقات حسب المعايير المالية، غير أنه غلبت الحسابات السياسية على الحسابات الأخرى، وانتصر دعاة الاندثار على دعاة الإحياء.. وانتهت بذلك محطة عدن الساحلية للاتصال بالبواخر.

فما قصة هذه المحطة?، وما هي الخدمات التي كانت تقدمها، وماهي أهميتها؟.

المحطات الساحلية للاتصال بالبواخر محطات دولية للاتصالات، تعمل تحت أنظمة وقوانين الاتحاد الدولي للمواصلات (ITU) وتتبع إدارات وشركات الاتصالات في كل بلد على حدة.. وظيفتها الأساسية إرسال واستلام الرسائل (البرقيات) من وإلى البواخر في عرض البحر.

ومع مرور الزمن اتسعت وظائف المحطات الساحلية لتشمل خدمات الإسعاف الطبي لركاب وأطقم البواخر، وتعميم نداءات الاستغاثة للبواخر المعرضة للغرق، وتحذير السفن من أخطار العواصف والرياح الشديدة.

وقد قامت في كثير من المدن الساحلية العالمية مثل هذه المحطات مثل: سنغافورا، هونج كونج، جدة، البحرين، السويس، روتردام، لندن، ونيويورك وغيرها.

غير أن المدن التي تقع بحارها على خط الملاحة الدولية وتلك التي يقع ميناؤها في منتصف المسافة بين الشرق والغرب وميناء عدن بالذات الذي يقع في منتصف المسافة بين مصر والهند أقيمت فيها واحدة من أقدم المحطات الدولية والأقدم في الجزيرة والخليج.

إن محطة راديو عدن الساحلية التي أقامتها الشركة البريطانية CABLE&WIRELESS التي كانت تعمل حتى عام 1978 في عدن أنشئت لتحقق ثلاثة أهداف رئيسة:

أولا: لتكون عمودا رئيسا من أعمدة ميناء عدن الحر، ومن أهم عوامل دفع الاقتصاد والتجارة، حتى أصبحت المحطة وميناء عدن صنوين متلازمين، لايستغني أحدهما عن الآخر، إذ لا ميناء حر مزدهر بدون محطة ساحلية للاتصالات البحرية.

ثانيا: لتقديم الخدمات البرقية من وإلى البواخر في المياه الإقليمية والدولية، والإسهام في تأمين سلامة الملاحة الدولية.

ثالثا: لتكون أحد مصادر الدخل الصعبة للشركة.

أدركت الإدارة البريطانية هذه المسلمة واستشفت مستقبل ازدهار ميناء عدن لنا، فقد جندت الأجهزة والإدارات الحكومية (أمانة الميناء، الصحة، سلاح الطيران الملكي)، وشجعت الشركات الخاصة مثل شركات البترول وخدمات التموين وإصلاح السفن.

أما أمانة ميناء عدن فما قدمته لتطوير الميناء فتاريخ معروف ولا داعي لتكراره.

وأنشأت الإدارة البريطانية دائرة خاصة بصحة الموانئ تعني بتقديم المساعدة الطبية والعلاجية لركاب وأطقم البواخر في البحر، ويتم ذلك عبر محطة راديو عدن الساحلية. ويوجد طبيب مناوب يمكن الوصول إليه في أي وقت من أوقات الليل والنهار لإعطاء الوصفات العلاجية والدوائية للمرضى والمصابين في عرض البحر.

أما في الحالات الطارئة عندما يتطلب نقل المريض أو المصاب إلى المستشفى في عدن فتتدخل طائرات سلاح الجو الملكي (الهيلوكبتر) لأداء هذه المهمة.. ويتم ذلك بسرعة وفي أوقات قياسية أكسبت ميناء عدن ومحطة راديو عدن احترام ملاك وربابنة السفن.

وبدون شك فإن كل هذه الإدارات وشركات خدمات السفن وأرباب المال والتجارة لابد لهم ما يؤمن الاتصال والمتابعة والتنسيق فيما بينهم، وكذا بينهم وبين ملاك ووكلاء السفن، والأهم من ذلك من يسهر على تأمين سلامة الملاحة في واحد من أهم ممرات الملاحة الدولية.

وبعد أن اطلعنا على وظائف ومهام المحطة الساحلية نعرج فيما يلي إلى مكونات المحطة الفنية والبشرية ونظام عملها حتى نستكمل الصورة كاملة عن المحطة.

يقع موقع تشغيل المحطة في رأس بردلي بالتواهي في مبنى المؤسسة العامة للاتصالات، وكان يضم- وقد أصبح الآن مجرد ذكرى من الماضي- جهازي اتصال بالمورس، يعملان على الموجتين العالية والمتوسطة لإرسال واستلام البرقيات والمذكرات والنداءات من وإلى البواخر.

ويتم الاتصال بالباخرة المطلوبة عبر مناداتها بالمورس على إشارة النداء الخاص بها.

ويقوم بتشغيل الجهازين فني اتصال على درجة عالية من التدريب والكفاءة والانضباط والإجادة التامة للغة الإنجليزية والإلمام بقوانين وأنظمة الاتصال البحري الصادرة عن الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU).

وتعمل المحطة الساحلية (راديو عدن) دون توقف على مدار الساعة طيلة أيام الأسبوع، ويتبع المحطة الساحلية محطة إرسال بالحسوة، تضم الهوائيات وأجهزة إرسال، ومهمتها توجيه المحطة الساحلية بالتردد المناسب لمخاطبة السفن وتهيئة اتصال سريع وآمن بين السفن والمحطة الساحلية.

كما ضمت محطة الإرسال التي بنيت في أوائل ستينات القرن الماضي أجهزة مساعدة من تكييف مركزي ومولد احتياطي ومحول كهربائي ومنازل للفنيين والعمال لازالت قائمة حتى الآن.

وهي المحطة التي دكتها قذائف المنتصر، وخربت أجهزتها الدقيقة، وقضى الناهبون وأمراء الفيد على ما فيها، ولم تتبق غير مبانيها التي أصبحت مستودعات ومخازن شاهدة على عصر زاهر.

إضافة إلى محطة الإرسال في الحسوة توجد محطة استقبال مقامة في مبنى مستقل أعلى رأس بردلي.. وظيفتها ضبط وتشغيل أجهزة الاستقبال، ومتابعة نداءات البواخر لمحطة راديو عدن، إذ تبلغ نداءات البواخر في بعض الأحيان عشرات النداءات في وقت واحد يقفون في طابور مرقم من قبل المحطة الساحلية في انتظار وصول دورهم.

وكون البواخر حتى تلك التي تبعد آلاف الأميال قد خبرت راديو عدن من حيث الدقة والانضباط وسرعة التعامل مع مراسلاتها، فإنها تؤثر الانتظار حتى يحين دورها على أن تتحول إلى محطة ساحلية أخرى.

إلى جانب وظيفتها المساعدة للمحطة فإن لمحطة الاستقبال وظيفة تمرير المكالمات الهاتفية الوطنية والدولية من وإلى البواخر.

وتعمل محطتا الإرسال والاستقبال في الحسوة ورأس بردلي دون توقف وعلى مدار الساعة بالارتباط براديو عدن.

هذا باختصار ودون الدخول في تفاصيل قصة المحطة الساحلية راديو عدن، الشاهدة على ماض زاهر يبعث على الزهو والفخر، وأصبحت الآن في يد الحاقدين على عدن ومينائها وما يمت بصلة إلى أمجادها التي استحقتها بفضل تفاني وقدرات أبنائها، أصبحت مجرد ذكرى تبعث على الحسرة والألم.

ترى هل قدرت الدولة الخسارة التي تكبدتها بتدمير وتجاهل هذه المحطة، ليس فقط الإيراد الكبير الذي كانت تحققه المحطة بالعملة الصعبة، بل خسارة ميناء عدن وخسارة النشاط الملاحي والنقل البحري بأكمله.. وقبل هذا وذاك خسارة السمعة التي لازمت عدن بفضل أحد معالمها الدولية؟!.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى