الصدق الفني

> «الأيام» عبدالناصر النخعي:

> ورد في معجمات اللغة معانٍ عديدة للصدق، منها أن الصدق يعني: الإخلاص، الصدق: الصلب المستوي من الرماح، والصدق: الشد والصلابة، ويقال: تمر صادق الحلاوة: أي شديدها. وقد وصفت العرب من كان قوياً في قوله مقداماً في فعله بالصادق، وأشهر من اتصف بسمة الصدق النبي المصطفى والرسول المجتبى صلوات ربي وسلامه عليه.

ومهما يكن من أمر فإن الإنسان الصادق هو من كان كلامه خالصاً لا مراء فيه ولا افتراء، قوياً لا ضعف فيه ولا وهن، ولذا أمر الله- سبحانه وتعالى- عباده أن يكونوا صادقين في أقوالهم وأفعالهم بقوله- جل في علاه-:(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).

وقد دعا النقاد قديماً وحديثاً الأدباء ولاسيما الشعراء إلى تحري الصدق في القول وعدم الجنوح إلى أغاليط الكلام وأكاذيبه، وقد بينوا في دراساتهم كثيراً من زخارف القول وأباطليه، وكشفوا عوار ثلة من الشعراء الذين جانبوا الصدق الشعري وتسربلوا بالأباطيل وتدثروا بها.

وإذا كان الشاعر صادق العاطفة، مخلصاً في قوله جاءت ألفاظه سلسلة عفوية تقطر عذوبة وتنضح صدقاً.

أما إذا كان الشاعر كاذباً في مشاعره، مغالطاً في عواطفه، مبالغاً في أحاسيسه خرجت من فيه الكلمات المريبة التي تكاد تقول خذوني، وهاك موازنة بين صادق القول وكاذبه عند الشعراء:

فحين تقرأ قول عنترة واصفاً مشاعره التي يكنها لعبلة من مثل:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمـعـت كبـارق ثـغـرك المـتـبـسم

تثق الثقة كلها أن الرجل كان صادقاً في قوله مع ما استعمل من مجاز القول وزينته وكان مخلصاً في حبه، أميناً في نقله.

ومثله في ذلك قول قيس في ليلي:

لو أن ليلى حاكمت شمس الضحى

في الحسن عند موفق لقضى لها

وتعال معي لتوازن ما سبق بما قاله كُثير عزة:

لو يسمعون كما سمعت كلامها

خروا لعزة ركعاً وسجوداً

فلو سلمنا بصحة عقيدة الرجل، فإننا لانسلم له بما ادعاه من قول وافتراء، إذ نجد في النص تأليهاً وتقديساً لا يصحان إلا لرب العالمين، فمهما بلغت مراتب الحب والعشق الصادقين، فإنها لا تصل بالمحب إلى هذا الموضع. ومثيله في ذلك قول محمد بن هانئ الأندلسي، عندما غالى في مدح المعز لدين الله أبي تميم الخليفة العبيدي الفاطمي، الذي حكم الشمال الأفريقي:

ماشئت أنت لا ما شاءت الأقدار

فاحكم فأنت الواحد القهار

هذا الذي ترجى شفاعته غداً

حقاً وتخـمد أن تـراه النار

ومثله أيضاً قول أحد الغلاة الروافض في علي رضي الله عنه وأرضاه:

أبا حسن أنت عين الإله

وعنوان قدرته السامية

وأنت المحيط بعلم الغيوب

فهل تغرب عنك من خافية

لك الأمر إن شئت تعفو غداً

وإن شئت تسفع بالناصية

فترى الشاعر يهذي بما لا يدري ويهرف بما لا يعرف، فأين الصدق من هذا الضلال؟ وأين الحق من ذاك الخبال؟

وعوداً إلى قضيتنا الأساس، الداعية إلى القول الصادق والشعور الدافق والحق الدامق، وهذا لا يتأتى إلا لشاعر صافي السريرة، حسن الأخلاق والسيرة، تأتي ألفاظه عذبة يسيرة لتعبر عن حس مرهف، وعاطفة تعرف، وهذا ما يدعو إليه الأدب، ولاسيما الشعر، فهو مأخوذ من الشعور لامن الزندقة والفجور.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى