> عدن «الايام» خاص:

مع ذلك تسير الحياة مهما كان المكان الموضوع فيه المريض غير أن الشارع يبرز للأعين مايعاني فاقد العقل.
كل من يراهم يستفهم عن دور الشرطة والمصح النفسي إلا أن الشرطة وإن قامت بدورها كما رأينا في الأسبوع الماضي ما قام به العقيد عوض محمد من حملة لتجميع المرضى من الشوارع والإتيان بهم للمصح، تبقى قد أدت ما عليها أمام الله أولا وأخيرا.
يظل السؤال الذي يطرح نفسه بقوة ما هو الوضع في المصح وكيف يعيش المرضى هنالك؟!
رحلة هذه المرة إلى عالم هؤلاء المرضى الذين رمي بهم في المصحة وتناساهم المجتمع وكأنهم نكره، أم أنه الإيمان بأن متاعبهم لو شرحت لأحد فلن يصدقها عاقل من مجنون وبالتالي «فالضرب في الميت حلال؟!!».

«أعطني ما أشتري به أشياء آكلها وربنا يرزقك بابن الحلال يابنتي، شوفيني مش مجنونة بس تجي الحالة بعض الأحيان والآن أنا تمام».
عبرات تستقبل الزائر بها مريضات المصحة النفسية بمديرية الشيخ عثمان وما تبرح هذه الكلمات عن مسمعي كلما يراودني الحديث عن هؤلاء النسوة والرجال الذين يسكنون المصحة منذ سنوات وإن صح التعبير فهي عقود بالنسبة لبعضهم .
حقيقة مرة يعيشها المرضى ولعل عالمهم يحمل دروسا للعقلاء قررت أن أقتحم هذا العالم وإن وصفت بالجنون فما أبالي. حملت حقيبتي وانطلقت وكنت أعرف أن ثمة أسوارا يجب علي أن أعرف كيف أتخطاها.. إنها أسوار ورسميات المرافق الحكومية في بلدنا.
كنت أريد أن أرى وأسمع وأرقب كل شيء كما هو: لا تجميل ولا تزييف وماكان أمامي من خيار سوى أن أخفي شخصيتي الصحفية وأرافق عائلات جابت المكان لرؤية ذويها.

ولو أن شخصاً رأى المشهد لاعتقد أنها قريبتي ولعلها رحمة المولى في تسهيل ما جئت لأجله. حين تبدأ ساعات الصباح الأولى فإن الفطور ينتظر النزيلات وهو رغيف وبيض أو فاصوليا ولا جديد بين صباح وآخر ترفقها وجبة غداء من الأرز و(الصانونة) ولابديل عنها في نهارات الأيام والأسابيع إلا من اشتهت شيئا فعليها أن تعض أناملها حسرة أو إن كان لها من قريب يرسل لها مالا فهو الفرج في الحصول على ما يسد الرمق .
لذلك السبب تسأل النساء كل زائر المال عند ولوجه إلى عنبرهن. وعددهن أربع وعشرون امرأة، منهن من أمضت مايزيد عن عقدين (اثنتين وعشرين سنة) ولم يحرك ذووها ساكنا في السؤال عنها وظلت تحمل علبة الماء من مكان لآخر بحثا عن مكان تستريح به وكانت أرضية العنبر مكانها البارد المريح.
همهمة الممرضات لم أتركها تمر مرور الكرام وعندما سمعت الحديث أكبرت فيهن روح الصدق للأيادي التي تعمل معهن من المتطوعين الذين وصفنهم بالمواظبين والأكثر حرصا على المرضى من إدارة المصحة.

في دهاليز هذا العنبر النسوي كانت النزيلات يتمتعن بالنظافة والأسرة متوفرة والطعام هو الحاضر الغائب وكانت عيناي تسترقان النظر في كل شيء، وبين تلك التي أدركتها نظراتي كانت ملفاتهن التى عاث الزمن بها فما عادت تسمى ملفات مرضى!! وكأنها تلوح لأصحابها بالرحيل في لحظات احتضار معلنة قرب المنية قبل طلوع أرواح أصحابها والمكان لا يوحي بجديد طيلة الأيام فالجدران مطلية بالطلاء والعنابر تجول بها بطون جياع وخلف القضبان تسمع صرخات المرضى.
البرادات غائبة والمكان بما فيه من اتساع يفتقر إلى صدق المسئولية تجاه المرضى وإلى وجود دائم للعلاج المجاني والحضور المستمر من الأطباء تحسباً للطوارئ، لا اهتمام إلا رحمة المتطوعين وبعض الممرضين.
حب المصح ورفض المجتمع
لم أترك نزيلا يشد الانتباه إلا وحادثته، ومن بين نوارس المصح وجدت أمين مكرد يتمشى وكان قد سبق لي التعرف عليه ومشاهدته داخل المصح يشاطر الممرضين الحديث ويتعرف على الزائرين وعندما رآني ابتسم على لقاء قادم.
أيمن من النزلاء الذين رفضوا مغادرة المصح رغم كل الإغراءات التى قدمتها عائلته إذ يبدو أن حياة العزلة فرضت عليه تعلقا بالحياة بين النزلاء بدلا عن كوكبة المجتمع الأسري وقال:«أنا أحب الحياة في المصحة ولن أخرج منها بعد مكوثي سنوات طويلة».
قلت له : ما الذي وجدت بها يجعلك تحبها هكذا؟ فقال:«كل حاجة تعجبني هنا».

خلف النوافذ قضبان العنابر
في العنابر يتجول المرضى في الممرات يتسامرون وتشاهد النسوة التلفاز ويطلب الرجال المدخنين السيجارة ممن يمرون بينما يصرخ البعض لطلبها من خلف نوافذ الأبواب وفي الداخل يبقى البعض خلف قضبان الأقفاص يحملقون في الداخل ويبقى القاسم المشترك الوحيد هو الجوع والإحساس بوحشة المكان.
وفي الأخير تبقى المصحة بما تمتلكه من سمعة ودعم تستطيع أن تفتح أبوابها لمرضى آخرين إذا صدقت النية مع الله أولاً.