صور من الحياة العدنية

> «الايام» نجمي عبدالمجيد:

> مسافات من الأزمنة تحمل إلينا صورا من الحياة العدنية، تلك الأيام وأهلها وما تركت من كلمات هي الذكرى الباقية من أحاديث الأمس.

عدن وأشياء من الماضي الذي مازال يعود إلينا كلما تصفحنا تلك الأوراق من الذاكرة العدنية، ماض مازالت أطيافه تترحل بين كلمة وحكاية، وبين عاطفة ووجدان، وأفق يطل علينا من خلف غيوم الحنين, يستعيد بهجة الزمن الجميل، عدن مدينة الحلم، تتنهد فيها الأشواق في همس أمواج شواطئها، وكم يطول الانتظار فيك يا عدن، وهذه بعض من الصور العدنية.

من مسرور مبروك إلى محمد عبده غانم

في العدد (27) من صحيفة «فتاة الجزيرة» 30 يونيو 1940 السنة الأولى الموافق 24 جمادى الأولى 1359هـ نشرت هذه القصيدة، وقال الشاعر مسرور مبروك لمدير صحيفة «فتاة الجزيرة» السيد خالد علي لقمان: «سيدي مدير «فتاة الجزيرة» الغراء المحترم: اطلعت على العدد (25) المؤرخ 10 جمادى الأولى، وما كدت أرى قصيدة (في الحسيني) للشاعر الفحل (صدى صيرة) الفاضل العدني حتى حفزني دواعي الوطن المضياف الكريم إلى جوابه ورد تحيته بأحسن منها أو مثلها بما يلي:

يوم أطل محجلا بساما

أدِّ التجلة فيه وإلاعظاما

أحمل إلى عدن تحية شاعر

وأقرئ الضيوف تحية وسلاما

لحج العريق وفاؤها حفظت لكم

عهدا على طول المدى وذماما

لستم بها غرباء أنتم أهلها

أنى حللتم تنزلون كراما

كم يجمع الماضي القريب قلوبنا

أيام كنا للجهاد قياما

والجو أربد بالعواصف منذر

بادي القتام سحائبا وغماما

الجار نحو الجار يرنو مشفقا

جزعا يكابد مثله الآلاما

لو يستطيع مشى إليه باذلا

عونا ولو ملك القيام لقاما

ويكاد يذري الدمع لولا موقف

جعل الدموع على الرجال حراما

يا أيها العدني قدمت مكرما

ما فيك إلا نابغون عظاما

لحج بلاد الخير أشرق فجره

فيها وقد كان الأنام نياما

عدن التي أدبت لها فيما مضى

كرما سقتها الورد جاما جاما

والآن ها لحج تفي لمضيفها

برا وتنشر نرجسا وخزاما

وجد النزيل حماه في روضاتها

وطنا وأهلا باذلين كراما

المجد يأبى أن يحل بغيرها

والله يأبى أن يراها ظلاما

أهلا بهذا الجمع فوق بساطها

متهللين أحبة ونداما

نعم احتماؤكم وبورك سعيكم

وجواركم قد طاب عاما عاما

الحوطة: مسرور مبروك اللحجي

جولة في لحج

عندما قامت الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) لم تكن عدن بعيدة عن تلك الأحداث، وهي القاعدة البريطانية المهمة في المنطقة.

ولم تصل إلى عدن القوات الألمانية غير أن دولا قريبة من حدود عدن البحرية تعرضت لأهوال تلك الحرب بتاريخ 14 أغسطس 1940. غزت القوات الإيطالية الصومال البريطاني، وتم الاستيلاء عليه في 19 أغسطس من العام نفسه، وكانت الطائرات الحربية الإيطالية قد قامت بقصف مدينة عدن، وقد عرفت باسم (حرب الطليان) مما دفع الكثير من سكانها إلى النزوح نحو سلطنة لحج.

وقد كتب الأستاذ محمد علي لقمان في العدد 28 من «فتاة الجزيرة» بتاريخ 7 يوليو 1940 عن إقامة أهل عدن وما كان من حالهم فيها، فقال: «لجأ عدد كبير من النساء والأطفال إلى البلد العربي المجاور، فوجدوا بلدا طيبا يأوون إليه ويستظلون بظله في حماية سلطانه الكريم.. وما لحج إلا إمارة عربية تقع في في بقعة من أخصب مناطق وما لحج إلا إمارة عربية تقع في بقعة من أخصب مناطق جنوب الجزيرة العربية يحكمها السلطان عبدالكريم فضل العبدلي، ورعاياه يعتمدون في حياتهم على الزراعة والفلاحة.

وهم على وجه العموم سعداء بوطنهم ومحصولاتهم، وليس عليهم ضرائب ولا رسوم سنوية، والماء تأتي به السيول من أعالي اليمن، وقد عمر لها السلطان سدا عظيما يمنع تدفق المياه- عبثا- إلى البحر، وتمكن اللحجيون من الانتفاع بالماء، وزادت منتوجات الأراضي الزراعية في هذا العام وأصبحت الفواكه والخضرة كثيرة في البلاد.

لحج في هذه الأيام شديدة الحر في النهار، أما لياليها فإنها معتدلة، ويبرد الجو قبل الفجر حتى يضطر المرء إلى التدثر.

وهذا شأن المناخ الصحراوي، وهي واحة خضراء تفترش بساتينها، أرضها واسعة ممتدة من ضواحي الحوطة عاصمة لحج إلى الخداد، ومناظرها الطبيعية جذابة، فمن أشجار باسقة وأثمار يانعة وأزهار متفتحة وأريج شذي يعبق بأطيب روائح الورد والنرجس إلى جداول جارية، ونسيم عليل يحمل صهيل الخيل وجعجعة الجمال وثغاء الماعز تحت ظلال الأشجار.

والفصل في لحج هذه الأيام خريف والنخل تحمل أطيب الثمر والكاذي والفل يعطر أرجاء البساتين.

يممت لحج والقلب ينبض بضروب الأشواق والأشجان إلى أحبائه وإلى الأهل والإخوان، وقد امتطيت متن سيارة ذكرتني بقصيدة الأمير أحمد فضل الشعبية:

أقبل الموتر حنية مفزعة

حملة راعية لما شبعه.. إلى آخرها.

وقد أحجمت السيارة في منتصف الطريق عن السير لخلل طرأ عليها، والشمس في قبة الفلك تبعث حرارتها إلى الوجوه فتشويها شيا، لكن الأمير نصر أمير الضالع أدركني بسيارته فأقلني إلى لحج، وهناك التقيت الأحباب وطفت بالبلاد وزرت عظمة السلطان وهو في روضته الغناء، يقضي النهار باحثا عن سعادة شعبه ناظرا في مصالحهم.

وقد قرر القيام باختطاط منطقة جديدة لبناء عمارات على أحدث الطرز، وعزم على تنفيذ برنامج صحي يقضي على مرض الملاريا.

وإني لن أنسى طوافه بي في أرجاء الروضة وقطفه لي أطيب الفواكه الناضجة من أشجار الشيكو والجوافة، وكان يرافقنا سمو ولي عهده المحبوب الذي يلازم والده منفذا أوامره بين الفينة والفينة مع الأمير الكريم مهدي بن علي، وهو أمير هادئ بعيد النظر عالي الهمة عظيم النشاط.

ولما كان المساء أمر لي السلطان بفرس كريم وبآخر لولدي عبدالرحيم، فقمنا برحلة إلى الحسيني، حيث الهواء الطلق والخضرة المفرحة بين حفيف الأشجار وتغريد الأطيار، ولولا مداعبة ثقيلة من وديع نفرت فرسي فكاد يطرحني أرضا لما كان في تلك الرحلة ما يكدر الصفو.

ينتشر اليوم عدد من أهالي عدن في الحوطة وقراها (المحلة والمجحفة والحمراء والفيوش والوهط ونوبة عياض)، وقد أمر السلطان بإعانة الفقراء وإعطائهم بعض النقود للاستعانة بها على الدهر، ويقوم الأمير أحمد مهدي بن علي بحراسة المدينة وتوفير أسباب الرائحة للاجئين».

عدن والحرب الجوية

بتاريخ 13 يونيو سنة 1940 كانت الطائرات الحربية الإيطالية تحلق فوق سماء عدن.

ولكن دفاعات سلاح الجو البريطاني تصدت لها وأرغمتها على العودة، ولم تصب الأهداف المطلوبة، وردت الطائرات البريطانية بـ 70 غارة على مناطق القوات الإيطالية، وحاول الطليان اختراق سياج دفاع عدن والوصول مرات إلى قرب المدينة، غير أنهم لم يتمكنوا إلا في ثلاث مرات من الوصول إلى الحدود البحرية حينما بعثروا قنابلهم في مياه البحر أو في مناطق خالية وبعيدة عن الأهداف بعدة أميال، وكان الطليان قد هاجموا بربرة وجيبوتي عدة مرات وكذلك ميون وكمران.

كان هجوم الطيران الحربي الإيطالي على عدن من ارتفاع شاهق، وهذا جعل هجومهم بعيدا عن الأماكن المقصودة، وفي القتال بين المحاربات أسقط سلاح الطيران البريطاني ثلاث طائرات، وتم أسر أربع طائرات، وكانت واحدة معروضة أمام الناس في عدن، وباءت غارات الطليان على عدن بالفشل والخسران حتى لم يبق لدى سلاح بطاريات الشواطئ العدنية من عمل تقوم به غير الاستعداد لصد أي هجوم.

ونظرا لظروف الحرب فتحت مستشفى لحج أبوابها أمام أهالي عدن الذين أقاموا فيها أثناء تلك الأحوال، وكانت تحت إشراف الدكتور (جاولكر) وهو طبيب هندي يحمل شهادة (M.B.B.S) وهي أعلى شهادة تمنحها كلية جرانت في بمبي، وفي عدن قامت جمعية الصليب الأحمر بجمع إعانات من أعيان المدينة للمساهمة في أوضاع عدن.

ألبسوها من المحامد ثوبا إلى عدن الحبيبة

في العدد (38) من «فتاة الجزيرة» الصادر في 15 سبتمبر 1940 نشرت هذه المادة: «مرحى لك يا وطني المحبوب مرحى، فقد أشرقت شمس سعدك في الخافقين، وفاح عبير رياك في أنف النيرين، وتجلت طلعتك الوضاءة، تزري بالفرقدين، وخلد ذكرك ما تعاقب الجديدان، كيف لا، وهذه (فتاتك) الغراء بعد أن برزت من خدرها المصون تتهادى بحسنها الإلهي، رافعة بجمالها الأدبي الجذاب ذكرك، وناصبة لك على هام الوفاء علما يخفق بالحب المتواصل حتى أصبحت تتلقفها القلوب قبل الأيدي، وتتشغفها العقول قبل الآذان، وجعلت اسمك يردد على موجات الأثير من كبريات محطات الإذاعة، يرن صداها في أرجاء المعمورة متصاعدا إلى ذروة السماء.

أي عدن العزيزة، إذا رأيت (فتاتك) تأبى أن تكون عالة على غيرها أو أن يتحكم في سيرها من لايتناسب وعزيمتها القعساء، فما ذلك إلا شيمة الأدب الرفيع.

ها (فتاتك) قد شمرت عن ساعد الجد، ووطدت العزم على نيل حريتها كاملة غير منقوصة، إذ الحرية طبيعة في العربيات، وأسلمها مقاما في الفتيات الأبيات، إذ قط طبعن على الأنفة العربية والعزة الإسلامية، وها هي (فتاتك) الغراء قد استوردت لها مطبعة خاصة بها، أعدت لها كل ما هي له أهل من مختلف الأحرف ومتنوعات الخطوط، وما تقصد (الفتاة) من وراء ذلك تحريرها فحسب، بل لتحررك أنت يا وطني المفدى، فتسدي لك ولأبنائك من الخدمات الجليلة والأيادي البيضاء النبيلة، ما سيكشفه لك الغد، وإن غدا لناظره قريب.

وقد اختارت لمطبعتها مكانا يليق بكليهما، وهو المحل الذي كان يشغله سابقا المستر بات المحامي المقابل لجنينة البلدية الكائنة بين المحل وإدارة البلدية، ولعمري إنها لخطوة شريفة ثانية يخطوها ابنك البار (رب الفتاة) الأستاذ لقمان، لرفع كيانك وحفظ مستواك وتخليد ذكرك.

فأنعم يا وطني العزيز بولدك البار وأكرم وألف مرحى ومرحى بكل عامل في سبيلك!.

وإنك ولاشك قد أضفت هذه المكرمة إلى أخواتها السابقات على رأس الصفحة الأولى من سجل تاريخك العطر الذي يجزى فيه العاملون الكرام.

ولايسعني أن أختتم إليك كتابي هذا دون أن أتقدم بأبلغ التهنئات وأوفر التمنيات لك ياعدني الجليلة، لعزم (الفتاة) على تشييد مكتبة لها أيضا لمناصرة الأدباء والكتاب من أبنائك الذين أناخ الدهر بكلكله عليهم، وقعد الفقر بهم عن إبراز ثمرات أفكارهم وأقلامهم إلى عالم الظهور والوجود.

فقري عينا يا عدني العزيزة، وطيبي قلبا ملأ فراغه جهاد ابنك البار الأستاذ لقمان، وحسبك الأستاذ لقمان ومن هم عاملون مثله لخيرك من الأبرار والسلام.

المخلص لك المحب

عبدالله غالب عنتر

الشيخ عثمان».

رسالة والي عدن

بتاريخ 29 يوليو 1940 غادر والي عدن السير هاتورن هول (1940 - 1944) في إجازة قصيرة.

وكانت عدة شخصيات قد جاءت لوداعه، منها سلطان لحج عبد الكريم فضل بن علي العبدلي، وقبل سفر والي عدن أصدر رسالة إلى أهالي عدن الكرام، جاء فيها: «لقد سمح لي أن أذهب إلى إنجلترا لأسباب خاصة، وها أنا أكتب هذا لأودع أهالي عدن، راجيا أن يكون غيابي مؤقتا، وأن أعود سريعا، وسيقوم المستر أنجرامس بمقام الوالي في مكاني أثناء غيابي.

ويمكنكم أن تتأكدوا بأنه وجميع ضباط الحكومة سيثابرون على العمل لسعادتكم وسلامتكم.

إن عدن اليوم عرضة لأخطار الحرب، ولكنني على ثقة بأنها ستتخطى هذا الوقت بنجاح من دون أن يمسها أذى.

إن دفاعها لقوى، وإن روح الأمة فيها لروح كريمة، لقد تعاونت جميع الطوائف والطبقات مع الحكومة ومع بعضها البعض لاتخاذ التدابير الضرورية في هذه الظروف، وأنا على يقين بأنها ستستمر تعمل كذلك، ولذلك فإنني أسافر بالأمل الواثق أن عدن ستظل قوية سالمة، راجيا أنني سأعود فأجدكم ناعمين سالمين.

صحيفة «فتاة الجزيرة» العدد (32) 4 أغسطس 1940».

محمد عبده غانم في الحسيني

في العدد (30) من «فتاة الجزيرة» الصادر بتاريخ 21 يوليو 1940 يكتب الدكتور محمد عبده غانم: «عاد السلطان أحمد فضل بن علي العبدلي إلى لحج بعد غياب في الهند طال على محبيه وعارفي فضله.

فقد كانوا يتنسمون أخباره ليل نهار، ولاسيما أصدقاؤه العدنيون النازلون في لحج الآن، لأنهم شعروا بالفراغ الذي أحدثه غيابه عن لحج في مجتمعاتها الراقية، والذي يعرف ما انطوى عليه هذا السلطان من اللطف العظيم والأدب الجم والفكر الثاقب والمنطق العذب لاينكر على فريق الأدباء استيحاشهم من غيابه في الهند، ولاسيما في مثل هذه الظروف، والحمدلله على عودته سالما.

وقد جلب السلطان معه طائفة من الغراس ليغرسها في بستانه الجميل المترامي الأطراف، وذلك البستان الذي يمتاز عن غيره من البساتين في لحج واليمن بأنه يحتوي على عدد كبير من الأشجار الغريبة العجيبة التي تحمل الثمار الشهية اللذيذة التي كثيرا ما يقع ذكرها في قصائد السلطان الغنائية الشعبية.

وقد ساعد على جعل هذا البستان جنة من الجنان ما يملكه السلطان من همة لاتعرف الملل، وخبرة واسعة بالزراعة، ولاسيما من التطعيم الذي جاء في بستانه العجائب، فأنت تجد الجوافة التي نسميها بالعامية (الزيتون) تختلف عن النوع المعروف في السوق.

وتجد من الموز أصنافا نادرة. وقد وفق أخيرا إلى زرع نوع من المانجو يفوق في حجمه وطمعه (حافوص) بمباي الذي يتسابق العدنيون على شرائه.

أما الزهور الشذية فحدث عنها ولا حرج، لأن جو بستانه مشبع بعطورها المتنوعة.

فبينما يخيل إليك أنك تتنسم نفحات الفل إذا بك تشم عبق الياسمين ممتزجا بأريج الورود.

هذا إلى ما في البستان من أطيار مختلفة الألوان والألحان، تجعله كما قال الشاعر روضه الشعر والأغاني.

وكم يتملك المرء الإعجاب لدى زيارته هذا البستان من لطف صاحبه وحسن وفادته وما أعده للمقربين من وسائل الراحة والإكرام.

ولكن ليس هناك مجال للعجب، فإن الأمير مشهور باحتفائه بزائريه، ولاسيما أصحاب الفن والعلم والأدب، كيف لا وهو منهم وداره في الحوطة منتدى الفنانين والأدباء والشعراء.. وقد استقبله كاتب هذه السطور يوم جاء بقوله:

قم فهنئ لحجا بمن قد أتاها

بعد طول الغياب جاء فتاها

إن يكن أحمد الفضائل في لحج

فقد طاب صيفها وشتاها»

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى