الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم .. قراءة نقدية في أغنية (مش مصدق)

> «الايام» عصام خليدي:

> يتجلى في أغنية (مش مصدق) للراحل الكبير لطفي جعفر أمان مدى اهتمامه وعنايته الفائقة بنصه البياني والجمالي، فنجده يوزع نصه الغنائي هذا بين اللهجة العدنية وبين السهل الممتنع من اللغة الفصحى، مما صار جزءا من المتداول اليومي الذي يتكلمه عامة الناس، بحيث لايحتاجون عندما ترد الكلمات في نص إبداعي إلى قاموس للاستدلال على معانيها. يبدأ الشاعر نصه بالعبارة التالية الاستهلالية الاستغرابية المثيرة للدهشة, سواء للمخاطب المعني به النص أو للمتلقي «مش مصدق إنك أنت.. أنت جنبي»، فهذه العبارة الاستغرابية التي تعبر عن الفرحة التي فاقت الدهشة أعطت للنص طاقة الحركة والرفعة، ليدخل الشاعر ويدخلنا معه إلى بقية نصه الشعري البديع.

فكيف تعامل الملحن مع هذا النص الذي تألق فيه الشاعر لطفي أمان، وأكمل سحر بيانه وجمال معانيه وتقنياته الفنية الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم؟

تتجسد وتبرز بوضوح في أغنية (مش مصدق) العبقرية اللحنية للموسيقار الراحل الفنان الكبير أحمد قاسم في إحدى تجلياته المدهشة المتكئة على اشتغالاته الواعية وبناءاته اللحنية النغمية الموسيقية الفارهة المترفة بثرائه وخيالاته الخصبة، وصوره وتعبيراته الموسيقية العميقة الدالة على جزالة وفذاذة موهبته الخارقة المتفردة والمستندة إلى المنهاج العلمي الأكاديمي، والمتمردة على كل الأشكال الغنائية الموسيقية النمطية السائدة.

يبدأ أحمد قاسم اللحن بالمقدمة الموسيقية (السائبة الأدليب) أي بدون الإيقاع على مقام (الكرد على درجة الدو كاه)، ومن ثم يأتي إلينا بعزف منفرد على (آلة العود) بديع، مبهر، متقن، على مقام (البيات) فيسلم بتقاسيمه على نفس المقام.

وبعد تلك المقدمة الموسيقية المصاحبة للإيقاع (4/4) (مصمودي) على مقام (الكرد على درجة الدوكاه)، تم لحن المذهب الذي يقول فيه : «مش مصدق إنك أنت جنبي/ أنت ياللي كنت خيال ضحيت له عمري وحبي/ أنت ياللي كنت تأخذ من حياتي كل دقيقة/ مش مصدق إنك أنت بين أحضاني حقيقة/ بل وأجمل من حقيقة».. ولحنت هذه الأبيات أيضا على (مقام الكرد على الدوكاه)، ويقف في مقطع «أحلى من أفراح عيدي/ أغلى من دنيا وجودي/ أنت معنى من جمال الكون من نوره وسحره/ أنت جنة أنت دنيا/ أنت وحدك حاجة ثانية»، لينتقل برشاقة (الموسيقي المحترف) إلى مقام (البيات).. وهنا (يطوف ويحلق) على مقام (البيات على درجة الدوكاه) ليصل إلى ذروة المقام في أبعاده ومساحاته النغمية الموسيقية، وفي أدائه وصوته القوي الجميل، فيصل إلى نغمتي (الفا والصول جواب مع مقام البيات) إلى مقطع: «أنت وحدك حاجة ثانية/ حاجة ثانية»، وبالتحديد عندما يرتكز في غنائه المعبر على نغمة (سي، بي، مول) ليعود ويستقر مرة أخرى على مقام (الكرد) الأساسي الذي ابتدأ به المذهب.

وفي الكوبليه يقدم مقطوعة موسيقية مستقلة عن سابقاتها على إيقاع (4/4 مصمودي)، نفذتها الفرقة (الأوركسترالية) المصرية بغاية الروعة والجمال، ليجعلنا نشعر عند سماعنا إليها وكأننا أمام نهر جار من النغمات المتدفقة المعبرة عن الشجن، الحنين، اللوعة والاشتياق، على مقام آخر جديد يسمى (الهزام على درجة مي).. ويستمر هكذا تدفق وسريان النغمات الموسيقية (القاسمية) إلى أن يتوقف الإيقاع المصاحب للفرقة الموسيقية، فيبدأ الموسيقار أحمد قاسم بالغناء السائب الذي لا يصاحبه إيقاع، (ليسلطن) في أدائه الساحر الأخاذ على مقام (الهزام) في هذه الأبيات: «كنت أدور لك، وأشتاق لك، وأحلم بك كثير/ كنت أهب لك كل ليلة دنيا من حبي الكبير».. ليفاجئنا بمقطع جديد فيه كثير من الخروج عن التكرار والإعادة، فيشدو بهذه الأبيات: «جنة بالأنوار والأزهار والسحر المثير/ وأنت ماتدري بقلبي كيف لا عندك يطير»، لينتقل في هذه الأبيات إلى عالم متجدد ومقام جديد يعرف بـ (الحجاز على درجة الصول)، وهنا يتوقف المستمع منصتا مبهورا من قدرة فناننا الكبير الراحل الفائقة على التصوير والتعبير مع التجدد والتلاعب بمهارة واقتدار بالمقامات الموسيقية بطواعية.

وإذا ما وقفنا عند كلمة «يطير» نجد أنفسنا لانستمع فقط بل ننظر أيضا إلى تلك العظمة التي صور بها تلك الكلمة من تعبير موسيقي نغمي: «وأنت ما تدري بقلبي كيف لا عندك يطير».. وكأن قلبه ينتفض من بين ضلوعه وجوانحه، معلنا تمرده وعصيانه للسير والركض والطيران خلف من يحبه من شدة لهفته وهيامه وعشقه.. وهذه الطاقة اللحنية الموسيقية أعطت للنص المقروء (رفعة بصرية عالية الديالكتيك)، لها من طاقة الحركة (الدينامية) ما يجعلها بمصاف نص بصري (سينمائي).. فنحن لا نقرأ النص الشعري هنا بتأمل فحسب، بل نرى ذلك القلب في حال تمرده وعصيانه وطيرانه، كأنه لم يعد يحتمل أن يظل محبوسا في صدر العاشق، ولايجد معنى لوجوده وحريته إلا إذا أصبح إلى جانب من يحب ويهوى ويعشق.

وما أروع الأحاسيس والمشاعر المنبعثة من قلب (فنان) عاشق، متيم، ومحب، حين يتواصل غناؤه مع أبيات شاعرنا العظيم لطفي جعفر أمان: «كيف أضمك وأعشق النار التي بين الضلوع ؟!/ كيف أنثر لك أحاسيسي وأشواقي دموع؟!..» هنا يستخدم الفنان أحمد قاسم (الإيقاع الشرحي العدني الثقيل 8/6)، لكن نظرا لصعوبة تنفيذ هذا الإيقاع مع الفرق الموسيقية العربية، فإن الفرقة المصرية الأوركسترالية نفذت العمل وقدمته على إيقاع (الفالص) عربيا، كما استمعنا إليه في التسجيلات المصرية.. وفي هذه الأبيات لشاعرنا الفذ لطفي أمان من نفس الأغنية التي تقول: «كيف أتعذب بحبك، كيف لوتدري أحبك؟/ كنت أقول ياريت تدري بي وتعلم أيش فيبي»، تبتدئ من جديد عبقرية الموسيقار أحمد قاسم الذي ينتقل في كل كوبليه إلى مقام جديد مغاير منسجم مع ما قبله، هنا يسلطن على مقام (البيات على درجة النوى) بغناء (سائب)، وهنا أيضا لنا وقفة عند (اللازمات الموسيقية) التي تأتي بعد الغناء في هذه الأبيات: «كنت أتمنى أقول لك في وجودك (ياحبيبي)»، فاللازمة الموسيقية الفاصلة بين كلمة «ياحبيبي» «ياشدى عمري وطيبي» «ويامنى روحي وقلبي»، فيها اشتغال موسيقي حديث مبتكر غير مسبوق وجديد في الغناء اليمني عامة، وهو ما يسمى علميا وأكاديميا بمصطلح (الكرشيندو والدوميندو)، بمعنى أوضح من الصعود والارتفاع إلى النزول والانخفاض، ليعود بعدها إلى المقام الأصلي (الكرد على الدوكاه) بارتكاز على نغمة (لا/ نيترل/ طبيعي) ليكمل ما تبقى في المقطع الأخير من رائعة لطفي/ قاسم (مش مصدق).

كلمة لابد منها

كانت ومازالت غنائيات ومقطوعات أحمد بن أحمد قاسم الموسيقية ومشواره الفني الإبداعي (علامة مهمة متميزة) في مسار تاريخ الغناء اليمني والعربي الحديث والمعاصر، لكننا نشعر أن الواقع الثقافي اليمني لم يستطع أن يدرك ويستوعب- كما ينبغي- تجربته الغنائية الموسيقية المتطورة التي لاتزال (بكرا) تحتاج لمزيد من الدراسات المنهاجية العلمية.. (ظلم) بن قاسم حيا وميتا، فقد مرت ذكرى ميلاده ورحيله، ولم يحدث ما يستحق الإشارة والذكر، لايزال معاش أسرته زهيدا رغم (صرخاتنا) في كل عام، فما يصرف من الدولة لموسيقار الأجيال بعد وفاته عبارة عن راتب ضئيل لايساوي ما يتقاضاه (عامل نظافة) .. ياللعجب!! ولعمري فإن الخالق سبحانه وتعالى اختاره إلى جواره مشفقا عليه (الحياة) في زمن لم يعد به مكان ومقام للأدباء والفنانين والعلماء الحقيقيين، فغابت المعايير والمقاييس، وأصبح المجال مفتوحا على مصراعيه للمتثاقفين والأدعياء، ومن يجيدون نسج العلاقات العامة، اللاهثين بلاجهد ومعاناة وراء الأموال والشهرة.

أغنية (مش مصدق) قدمت كذلك بصوت وألحان الفنان الكبير محمد مرشد ناجي- أطال الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية- الذي أبدع هو الآخر في صياغة قوالبها وجملها الغنائية الموسيقية.. وسوف نتناولها بشكل مفصل لاحقا إن شاء الله.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى