أبوبكر السقاف.. القادم إلينا من المستقبل

> توطئة: ماتزال الأشرعة البيض تتجه نحو البحر... ونحو البحر تطير أجنحة غير مكسورة... وإلى العصيان تسرع الروح الضعيفة.. وأصوات البحر الضائعة.. ويسرع اللَّيلك الضائع ..(زمن التوتر) توماس اليوت

كتب الأستاذ عبدالباري طاهر بقلمه الرشيق ما يشبه الغوص في الذات، أو هي سيرة ذاتية أقرب إلى الإبحار في لجج أبي بكر عبدالرحمن السقاف (التجمع 7 يوليو 2008 ص 7 )، وقلت للزميل الشاعر محمد عبدالوهاب الشيباني (اللواء المتحرك وراء صدور التجمع) :«إن عملاقا كتب عن العملاق»، وقد استغرقت الصفحة بعضا من خبايا وبواطن وضوح وتجلي أبي بكر السقاف (الفترة المصرية تحديدا)، وإني لأستشف على مهابة أن عوالم أبي بكر دنيا ثانية موازية تتضح معالمها كلما ازدادت غموضا، وفيصلها تلك الاستقلالية التي عبر عنها أبوبكر نفسه في غير مناسبة بأنها لا حيادية سلبية تنأى عن الالتقاء أو التقاطع مع الآخر في الشؤون المختلفة فكرا أو سياسية أو على صعيد العلاقات الإنسانية، بقدر ما هي عدم الارتهان والتواكل لحساب جهة بعينها لمصلحة ذاتية أو أنانية.

كتب الزميل أحمد صالح غالب الفقيه: «النظر إلى بعيد، والرغبة الشديدة في الاستطلاع المغري، والكائنات الغريبة والآلهة التي تضطرب في النفس، تعبر فيما أرى عن جانب من شخصية الدكتور أبوبكر السقاف، طبعت حياته وسيرته بطابعها ووجد في أثنائها نمط العيش الذي يوافقه، وتحمل ما تأتي به من أذى مادي بطيبة خاطر مقابل الاطمئنان النفسي وراحة الضمير الذي يجلبه السعي وراء الحقيقة، حقيقة الحق والعدل والسلام والجمال التي يؤمن بأنها الجوهر الحق للحياة الإنسانية وإنسانية الإنسان في آن معا» («الديار» العدد 57 ص 10) بعد أن مهد الفقيه لرؤيته في السقاف بممهدات فلسفية راقية اتسقت تماما في مطلع مقاله الرائع (أبوبكر السقاف.. جمال الإنجاز ودقته).

الاقتراب من أبي بكر ممكنة في حدود المهابة التي تخلقها شخصية مفكر كبير، وعلى قدر تعدد مجالات المعرفة العلمية والإنسانية والإبداع المتنوع فإن ذاكرة السقاف أبي بكر وهو يطوي السبعين من عمره، تنشغل بأدق التفاصيل الحياتية منذ أن شهدت (الوهط) بزوغ نجم الفتى في الخمسينيات من القرن الماضي. وتكون اللوحة بانورامية تكتظ بالحياة؛ الوهط، الحوطة، الحمراء، الشيخ عثمان، عدن، دكان هنا ونادٍ هناك، ملتقيات للشباب الطامح للتغيير، شخصيات من مختلف الشرائح الاجتماعية، وبوادر ثورية، الأرض والزراعة والماء والسيل والغيل، والهجرة إلى أبين والحبشة، شظف العيش، والغناء والفن والشعر والشعراء.. كل ذلك حاضر بتوقد في عمقه الوجداني، وعندما ينقله بطريقته المملحة البديعة يتمنى المرء ألا يسكت صاحب الكلام عن كلامه.

ألسنا إزاء مفكر عظيم تتنازعه الفكرة الإنسانية مضمخة بهذا الزاد المعرفي المكتسب وبهذه الأصداء والتمددات البيئية والاجتماعية من الوهط إلى الحبشة، ومن مصر إلى روسيا إلى صنعاء لتتماوج مفردات معطياتها في ذهنية لا اعتيادية بالمطلق تفرز في النتاج الأخير ضمن العطاءات الفكرية والإنسانية للسقاف أبي بكر. ولعلي أستشف معنى مشابها أو قريبا من ذلك في قصيدة شاعر الهند العظيم (طاغور) التي تقول:

نهر الحياة يجري في عروقي

ليل نهار

وهو نفسه يجري خلال العالم

ويرقص بنبضات متناغمة

هذه الحياة نفسها

تطلق فرحها من تراب الأرض

وتتحلى بغصينات من الأعشاب

لا عدَّ لها...

ثم تنفجر أمواجاً عنيفة

مع الأوراق والأزهار

هذه الأوراق والأزهار

هذه الحياة هي نفسها

يؤرجحها المد والجزر

في بحر بلا قرار

هي مهد الولادة والموت

أحسُّ بأعصابي متجمدة

إذ تلامس حياة الكون

وإني لأعتز بذلك

فخفق حياة الأجيال الكبير

هو في دمي

يرقص الآن...

بحضوره الكبير في أربعينية زميله الأستاذ خالد فضل منصور - رحمه الله وطيب ثراه - في كلية الزراعة بحوطة لحج نهاية العام الماضي عنّ له أن يسأل عن مكان (معصرة سمسم) في سوق الحوطة كان قائما قبل نصف قرن، ولعله استدل عليه باقيا أو طللا وهو يردد مع الشاعر الجاهلي:

وقفت بها من بعد عشرين حجة

فلاياً عرفت الدار بعد توهمِ

فلماعرفتُ الدار قلتُ لربعها

ألا عم صباحا أيها الربع واسلم

وبعيدا عن ألق الفتى في مصر كما تحدث عنه عبدالباري طاهر، فإن الفترة المبكرة في الوهط (قبلها) كانت قد مخضت أو هي قد بلورت اتجاهه الفكري والسياسي العام بتأثيرات تلك المرحلة (بداية الخمسينيات) لانفتاح الوهط على عدن ولتميز أبنائها واستعدادهم لتلقف كل جديد، ولحظها أيضا من التعليم الكلاسيكي والعصري على السواء، ولانفتاحها على المهجر (الحبشة) منذ فترة مبكرة. وربما تكون هذه المرحلة هي أساس اكتمال مشارب أبي بكر- التي لا تكتمل بالأساس- في الجانب العقدي السياسي، بمعنى الالتزام بالرؤى الفكرية والسياسية ذاتها التي التزم بها أبوبكر بعد ذلك ودون انقطاع في سيرورة متبدلة ومتحولة.

عندما يقلب أبوبكر صفحات من سفر تلك المرحلة بعفويته المعهودة وامتياز القص الجميل الذي يبعث الحياة في الماضي البعيد، أكتشف أن لأبي بكر مجموعة قصصية مخطوطة تضيع في الوهط بعد أن تركها عشية ذهابه للدراسة في مصر، وبذا تكون هذه المجموعة التي لم تر النور من بواكير السرد القصصي في اليمن.

إن الخوض في ملامح غير اعتيادية من ملاحم إنسانية تشكل نسيجا واحدا - حاضرا وماضيا ومستقبلا - لشخصية أبي بكر السقاف لا يعني بالقطع سردا روائيا على لسان البطل أو الراوي، بقدر ما هو فصول مبتورة من مقاربات شخصية تهيؤها الصدفة ليس إلا. فالرجل الرائع والمبهر يترك كل ما يتعلق به، بشخصه الكبير للتاريخ وبتواضع جم - هو سمة من سمات العلماء كما نعلم - لا يبدي ميلا حتى باتجاه أن توثق كتاباته وبحوثه ودراساته ومقالاته المتنوعة. يقول الأستاذ عبدالباري طاهر:«والدكتور الباحث والعالم الجليل زاهد ولا يحب الظهور كثيرا، فرغم عطائه العلمي والفكري المتواصل منذ عقود لم يصدر إلا كتابين هما: كتابات ودراسات فكرية وأدبية، مع أن دراساته وأبحاثه ومقالاته السياسية عميقة الرؤية تغطي عشرات المجلات» (التجمع)، وأشعر أن مقالاته الاعتيادية في الصحف السيارة يعلو كعبها بقيمتها الفكرية والفلسفية وعمقها اللغوي ما يؤهلها ويجعلها أليقة بالتدريس في كلية الإعلام وأقسام الصحافة والإعلام بالجامعات اليمنية المختلفة، بدلا من الجهود البائسة التي لا تستحق الحبر المهراق على الورق الأبيض والتي يبذلها بعض الكتبة للرد عليه نيابة عن آمريهم.

في مطلع التسعينيات رأيته منكبا على تنقيح مقال له في مكتب الملحق الثقافي بسفارتنا بموسكو، ولم تكن القرابة الأسرية جسرا للعبور إلى عوالم أبي بكر السقاف بقدر ما تكون الانجذابات الثقافية والأدبية والنقابية هي طريق العبور إليه، وعندما عرضت عليه أن يلقي محاضرة في الطلاب اليمنيين الدارسين في موسكو كان مجيئه بالدقيقة إلى نقطة اللقاء في مترو الأنفاق القريب من جامعة الصداقة، وبدا غاضبا لتأخري دقائق عن الموعد.

وفي الطريق إلى الجامعة كنت أستمع منه لزوامل وأشعار المناضل أحمد عبدربه العواضي وآخرين قيلت إبان معارك الدفاع عن الثورة والجمهورية. وعندما يسألني عن مستويات الطلاب العلمية ممن سوف يستمعون إلى محاضرته أدركت مغزى سؤاله وأجبته أن لا يحمل الأمر على أنه جامعيون على طريقته. وأذكر أنه أثناء تقديمي له قاطعني معترضا على قولي (قاهرة المعز) بأنها (قاهرة الشعب المصري).

تختزن ذاكرتي بحديث قديم باح به الأستاذ الكبير عمر الجاوي عن فترة دراسته والدكتور أبوبكر في جامعة موسكو كيف تشاركا العيش في الشقة ذاتها في السكن الجامعي (غرفتين وحمام مشترك)، فالسقاف أبوبكر قد اشترط منذ البدء على عمر - وهو على رأس رابطة الطلبة - أن تترك له خصوصيته للتفرغ في غرفته للدراسة أيام الأسبوع الدراسية، ماعدا العطل الأسبوعية فإن الغرفة مفتوحة له وللزملاء الذين يتوافدون إلى عمر وإليه أيضا. فدرس دراسة النابه الذي يسير بخطى الواثق على طريق (العالم والمفكر القادم) في مجالات الفلسفة وعلم الجمال، وكان نصيبه وافرا ومشهودا في قسم الدراسات الإسلامية طالبا ومعيدا. كان الجاوي الرائع وهو يتحدث عن زميله السقاف يضفي على الحديث تلك الهالة من التقدير والإعجاب.

ويتاح لي أن أرى -في موسكو- كيف يظل السقاف حريصا على متابعة الحالة الروسية العامة من جهة اهتماماته المعرفية أثناء تغيبه عن موسكو كل عام، من خلال احتفاظ السيدة قرينته بالموضوعات والمقالات التي تنشرها الصحف الروسية فترة غيابه في مجالات اهتمامه لتكون في متناول يديه عند عودته إلى منزله في موسكو في العطلة الصيفية.

لاشك أن شخصية المفكر العربي الكبير أبي بكر السقاف استثنائية بمعطيات الرؤية الفكرية والمعرفية العميقة التي يطرحها كمخرج من أزمة مستحكمة في الوضع اليمني العام، ضمن نطاق مشروع إصلاحي تنويري يضعه في مصاف المفكرين التنويريين الذين تقدموا الصفوف بنباهة رؤيتهم الثاقبة التي استوعبت الماضي وشخصت الحاضر و رسمت ملامح الغد الآتي.

يقول الأستاذ أحمد صالح غالب الفقيه: «... وفي سعي الإنسان الدؤوب وراء الحقيقة يؤتى الإنسان الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا. والحكمة مرتبطة بكلمات أبو بكر السقاف ارتباط الصفة الحقة بالموصوف»، ثم يجول سياحة - كما قال - في قطوف دانية من كتابات السقاف اختارها الفقيه بعناية ومنها «إن قضاء السلطة لايمكن أن يدين نفسه، وفي عهد سلطة شرعية الحرب أصبحت فاعلية المحاكم ميدانا للتدريب على إطلاق النار»، ويقول السقاف في مكان آخر: «عندما يتعرض تاريخ النضال السياسي والفكر السياسي للبتر والتشويه والإلحاق، فذلك جزء من تضليل الذاكرة، وهو مدخل لتزييف الوعي» («الديار»، العدد 57 ص 10).

أما الزميل د.عيدروس نصر ناصر - في عدد «الديار» نفسه المشار إليه آنفا - فيقول: «الدكتور أبوبكر السقاف لا يبحث عن المجد ولا عن المصلحة الشخصية، ولو أنه أراد ذلك لحققه بإيماءة بسيطة يعبر فيها عن تراجع ولو صغير عن بعض مضامين مشروعه الفكري والتنويري، لكن د.السقاف ذا الإرادة الفولاذية والقناعة الراسخة بما يؤمن به من أفكار وبما يحمل من رؤى، لم يخفه الترهيب ولم يغره الترغيب، وفضل العيش بسيطا متواضعا ولكن متحررا من التبعية لأي كان، شامخا بأفكاره متجددا بأطروحاته ومدافعا باستماتة عن مشروعه، عن أن يعيش عيشة الأمراء والمترفين ولكن مسلوب الإرادة مرتهنا لأي مركز من مراكز القوى.

لو أن أبوبكر السقاف ينتمي إلى بلد غير اليمن لمثل بالنسبة لأهله معلما يثير الاعتزاز والمباهاة والفخر تماما كما كان أرسطو عند اليونانيين، وغاندي لدى الهنود، وجان جاك روسو وفولتير عند الفرنسيين، لكن القدر شاء أن يكون هذا العلم الشامخ في بلد لا تتباهى إلا بحمر العيون وأصحاب الأملاك الطائلة حتى وإن أتت عن طريق تثير الشبهة والريبة». أما الزميل رداد السلامي فيقول في الصفحة نفسها التي كرستها الزميلة «الديار» للمفكر أبي بكر السقاف في مستهل مقاله:«لا تستطيع أن تكتب عنه ولو جمعت من كل قواميس اللغات أجمل مفرداتها، ذلك أن الكبار تتهيب مقاربة الكتابة عنهم، فهو فيلسوف اخترق واقع الأفق الوطني الضيق إلى ذلك الرحب، فأبوبكر السقاف ليس بتلك البساطة التي تبديها عليه ملامحه لأنه يحتل حضورا لافتا في حيز الجدل الفلسفي العميق الضارب في أطناب الفكر، كاتب لا يأتيك بالممل بل يدعوك إلى أن تمارس هواية تحريك العقل في شتى الاتجاهات».

وفي عدد الزميلة «التجمع» ذاته الذي توسطته مقالة الأستاذ عبدالباري طاهر (أبوبكر السقاف.. عالما ومفكرا) يكتب الشاعران الرائعان جمال الرموش ومبارك سالمين نصا شعريا مشتركا بعنوان (حق الأعزل) صدراه بالآتي:

«إلى السقافين: أبي بكر السقاف وعمر الجاوي» ويجيء فيه:

ممدودة مثل دودة القز

يد رقيقة تلوح للغريب

هي العقل إذ يغني

هي الفأس والجذع

لكنها لا تصافح البندقية

أميرة البهتان

ويعن لي دائما عندما أقابل أبابكر أن أردد بيني وبين نفسي بيتا شعريا لشاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري يقول:

فإن تحداك من عليائه ملك

يزهو عليك فقل إني من البشر

من قصيدة رائعة يقول مطلعها:

أرح ركابك من إينٍ ومن عثرٍ

كفاك جيلان محمولاً على خطر

كفاك موحش درب رحت تقطعه

كـأن مـغـبَّرَّه لـيـلٌ بـلا سحـر

وقد ضمنت البيت الشعري - المومأ إليه آنفا - هواجسي الشعرية التي تحكم في مداها الانفعالي الطغيان الوجداني لأبي بكر في حياتنا، وهي منشورة في عدد «الأيام» الغراء ليوم الأربعاء 16 يوليو الحالي ومنها هذا المقطع:

كما أنت

تخرج من غيمة سوداء مطرا

تفرش السماء لك زرقتها

كي نهتدي للظل

لرواغ ليل

لقافية مغايرة

من (الفبائكَ) وحدك

تنوء عن حملها الأحلام

الجبال

والصحراء

ولولا أنك قد قلت يوما

شيئا

ما لا تشتهي (أثينا)

الأسياد والدم البارد

ولم يبق إلا أن تمضي وحدك

سيزيف عاد على سدرة منك

تنسجم الحالة السقافية تماما ومعطياتها في الحياة، وتخلق هذا الإشعاع الوجداني والأخلاقي في العلاقة مع الآخر، وباتساق مع منظومة القيم والمبادئ التي يحملها صاحبها نبراساً في طريق طويل تتخلله مطبات وآفات وخفافيش تؤخر السير نحو إشراقة النور الكامل في نهاية الطريق، لكن هذه الحواجز المصطنعة ما كانت لتلين لحظة قناة من قنوات الفكر الشاهق المتحرك والمتطور والراقي في المنظومة السقافية، أما رهانه فهو الانتصار ولا غيره في نهاية المطاف كحتمية تاريخية سواء شهد أبوبكر السقاف هذا الانتصار أم لم يشهده.

لم يلتفت السقاف أبوبكر إلى إسفاف المتقولين أو إلى هراوات القمع فهو ليس معنياً (بأن ليس هناك من هو أكثر إصابة بالعمى من هؤلاء الذين لا يريدون أن يروا» كما يقول جوناثان سويفت.. بل يمضي في طريق الريادة الطويل بالشموخ ذاته الذي سار به الأفغاني، ورشيد رضا، والكواكبي، ومحمد عبده، وطه حسين، وسلامة موسى، وغيرهم من الرواد والمفكرين العظام في الوطن العربي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى