فجر النبوة (3)

> «الأيام» عبده يحيى الدباني:

> الإهداء: إلى المشاركين في مسيرة 22 يوليو في الحبيلين، وإلى جرحاها ومعتقليها الصامدين الصابرين.

وإذا كان البردوني قد تناول في المقطعين السابقين من القصيدة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصفة أصحابه بطريقته الشعرية الفريدة الآسرة، فإنه في هذه الجولة الثالثة منها يصف أصداء الدعوة الإسلامية في شعاب التاريخ الإنساني وكيف كان الإسلام ثورة شاملة عميقة ممتدة عبر الزمان والمكان، إذ يقول:

بعث الرسول من التفرق وحدة

ومن العدا القاسي أرق وداد

فتعاقدت قوم الحروب على الصفا

وتوحدت في غاية ومراد

وتحركت فيها الأخوة مثلما

تتحرك الأرواح في الأجساد

ومحا ختام المرسلين عن الورى

صلف الطغاة وشرعة الأنكاد

فهناك تيجان تخر وها هنا

بين السكون مصارع استبداد

وهناك آلهة تئن وتنطوي

في خزيها وتلوذ بالعباد

والمرسل الأسمى يوزع جهده

في الحق بين هداية وجهاد

حتى بنى للحق أرفع ملة

ترعى حقوق الجمع والأفراد

وشريعة يمضي بها جيل إلى

جيل وآزال إلى آماد

من هذه المفارقات نسج الشاعر أبياته، ولكنها مفارقات واقعية وتاريخية، لقد صار التفرق الذي ساد قبل الإسلام وحدة قوية بعد الإسلام وتحولت العداوة إلى محبة، وكان ذلك بشهادة القرآن الكريم في آيات متفرقة، وما أجل وأجل أن تتحرك الأخوة في نفوس القوم، كما تتحرك الأرواح في الأجساد، باثة فيها الحياة الحقيقية الفطرية، فالمحبة جديرة بخلق الوحدة، أما الأنانية والهيمنة فلايصنعان إلا التفرقة.

وأنظر إلى هذا البيت الذي يصور الآلهة الجاهلية الوثنية:

وهناك آلهة تئن وتنطوي

في خزيها وتلوذ بالعباد

لقد أضحت آلهة القوم تلوذ بهم بعد أن كانوا يلوذون بها جهلا وضلالا، والأصنام في الواقع لاتلوذ بأحد ولاينبغي أن يلوذ بها أحد، ولكن هذا هو منطق الشعر في تصوير الأشياء والحقائق، وما ألطف إشارة الشاعر واصفا السياسة الإسلامية حين قال:

حتى بنى للحق أرفع ملة

ترعى حقوق الجمع والأفراد

فالإسلام بحق قد حفظ حقوق الجماعة أو الشعب أو الأمة، كما حفظ حقوق الأفراد من غير ضرر ولا ضرار، فما أكثر الأنظمة التي صادرت حقوق الأفراد في سبيل الجماعة أو الشعب أو صادرت حقوق الشعوب والجماعات لمصلحة الأفراد، فيحدث بذلك الإخلال بالتوازن الفطري الطبيعي.

ويطوي الشاعر قصيدته بتحية مزجاة إلى صاحب الذكرى العطرة صلى الله عليه وسلم، ولكنها تحية شعرية لا اعتيادية، كما لم نجدها صلاة عليه، كما يفعل كثير من الشعراء في ختام قصائدهم، يقول:

ياخير من شرع الحقوق وخير من

آوى اليتيم بأشفق الإسعاد

يا من أتى بالسلم والحسنى ومن

حقن الدما في العالم الجلاد

أهدي إليك ومنك فكرة شاعر

درس الرجال فهام بالأمجاد

هذه هي صلاة الشعر والشاعر في محراب النبوة، إذ بعثها صافية من ينبوعها التاريخي، وزج بها في ميدان الحاضر، حيث ينبغي أن تكون، وحيث يخدم الماضي الحاضر، وليس العكس من غير تعسف أو تقليد أعمى.

وقد تجلت في آخر شطر طبيعة البردوني العبقرية في توقة المبكر العميق إلى المجد، وقد كان له ما أراد، إذ دخـل الـتاريخ من أجـمل أبـوابه.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى