قراءة في كتاب (ملوك العرب) ..لأمين الريحاني وزيارته للحج

> «الأيام» فيصل مليكان:

> أمين الريحاني أديب وكاتب ورحالة أمريكي من أصل لبناني هاجر إلى أمريكا مع أبويه وعمره اثنا عشر ربيعا، درس التاريخ والأدب الأمريكي، وأثرى معارفه بالأدب والثقافة الفرنسية والإنجليزية، ولم يعرف عن التاريخ والأدب العربي إلا ما تعرضت له الكتب الأوربية، وما أن وقع في يده كتاب (سجايا) للفيلسوف الإنجليزي (أمرسون) تعرف من خلاله على سجايا وأخلاق العرب والرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي عرف بسيد العرب عند الأوروبيين، ثم قرأ كتاب (الهمبرا) الذي يتحدث عن الأندلس، لؤلؤة تاج العرب، ويصف محاسن ومكارم أبناء الإسلام وأخلاقهم ومعارفهم.. عندها قرر زيارة سوريا ولبنان للاطلاع عن قرب على الثقافة والأدب العربي.. فقرأ لسيبويه والمعري، وتعرف في سوريا لمحرر مجلة سورية تعني بالأدب والثقافة العربية واسمه سليم سركيس الذي طلب منه أن يزور الحجاز ليتعرف على البادية العربية والقبائل التي فيها ولد ونشأ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ويود زيارة مكة وقبر الرسول، فقال سليم سركيس: إن له صديقا يعمل في خدمة الملك حسين شريف مكة، وعليه مراسلته، واسمه قسطنطين تبي، فكتب أمين الريحاني كتابا لقسطنطين يبلغه طلب الزيارة للحجاز، وأن يستأذن الملك حسين لتسهيل زيارته للتعرف على أرض العرب فرد قسطنطين بالموافقة، وأن الملك يرحب به وأنه سيساعده ويعطيه المعلومات المطلوبه وبإمكانه وضع كتاب عن العرب، أما طلب زيارته للكعبة، فلا يإذن له لأنه مسيحي.

وفي دار الكتب العمومية بنيويورك التقى بشاب يمني يبحث عن كتاب تعليم اللغة الإنجليزية، وعرف أنه يمني سأله عن اليمن قال: «بلادنا طيبة الهواء والماء، ولكن أهلها في احتراب دائم».. فرد أمين الريحاني مع من؟.. قال اليمني: «مع بعضنا البعض، فنحن أهل اليمن لانخضع لأحد ونحب الحرية ومن أجلها نذبح أقرب الناس إلينا لنكون مستقلين!!».. وأثناء الرحلة إلى الحجاز نزل أمين الريحاني إلى المطاهرة والتقى بالأديب السوري نعوم شقير، ووجده يؤلف كتابا عن تاريخ لحج، قرأ جزءا منه وأحب أن تكون زيارته الثانية بعد الحجاز هي لحج.

أمين الريحاني في لحج

في أبريل عام 1922 نزل أمين الريحاني إلى مدينة عدن في رصيف المعلا، ووجدها منقسمة إلى قسمين، القسم السياسي ويشمل التواهي والمعلا ويقع فيهما الميناء والحصون العسكرية ودار المعتمد البريطاني وبيوت التجارة والقنصليات والموظفين، والقسم الثاني وراء الجبل (جبل شمسان) ويسمى كريتر (فوهة البركان)، وفيها مختلف الأجناس، كما فيها الصهاريج التي يعود بناؤها إلى ألف وخمسمائة سنة قبل الميلاد، وأعاد ترميمها الإنجليز عام 1856.

وقال أمين الريحاني: «نزلنا في رصيف المعلا، واستقبلَنا القنصل الأمريكي في عدن المستر كروس وفي دار القنصلية، وكتبت كتابا إلى سمو السلطان عبدالكريم فضل إنني أرغب في التشرف بزيارته، وفي اليوم التالي جاء رد السلطان مرحبا بنا».. واستقل كل من الريحاني ورفيقه قسطنطين تبي والقنصل الأمريكي كروس القطار من المعلا إلى الحوطة.. ويصف أمين الريحاني رحلته هذه قائلا: «ركبنا من محطة عدن المعلا قطارا عسكريا خطه ضيق وعرباته قديمة، جيء به من الهند، وقاطراته أثر من آثار تاريخ البخار، فرقصت بنا وهي تترجرج وتقرقع في أرض سبخة قريبة من البحر، ومررت بركام من الملح مستخرج منه، ثم بواحة الشيخ عثمان بين صفوف مقاهيها، ومنها إلى دار الأمير، أي الحدود بين عدن ولحج، ثم صبر وجلاجل ونوبة الكهراني فالحوطة، كلها ماعدا الحوطة ودار الأمير أسماء أكواخ من القش واللبن وسط شيء من شجر الأثل وامبال، من القفر الذي تهب فيه رياح البادية تحمل السموم والموت من الربع الخالي.. ويمتد خط السكة الحديد إلى مكان يبعد ستة أميال عن الحوطة هي قرية الخداد، أما المساحة بين لحج وعدن فهي عشرون ميلا اجتزناها بالقطار في ساعتين.. وصلنا إلى الحوطة فاستقبلنا ورحب بنا في الحوطة أمام المحطة ولي العهد وأخو السلطان وغيرهما ممن في القصر، وهم في ملابس تدهشك بالألوان الزاهية البهيجة وشكلها الذي يختلف عن ملابس البدو والحضر في اليمن والحجاز وما أشبه اللحجي في فوطته المخططة التي تصل إلى الركبة، وعمامته الطويلة الذؤابة بالإسكتلندي، لكن السلطان أحمد فضل شقيق السلطان وهو قائد الجيش يلبس مثل أخيه السلطان عبدالكريم فضل، وله شغف بالألوان الباهرة، رايته في بنطلون أبيض ضيق حول الساق، وفوقه معطف إلى الركبة إسلامبولي الشكل من الحرير الأزرق المخطط، يشطره زنار، وآخر مشدود إلى وسط نحيل، في الزنار خنجران هائلان مرصعان بالأحجار الكريمة وعلى رأسه عمامة صفراء.. حمراء.. زرقاء.. ملفوفة في شكل هرمي.. ركبنا من المحطة في الحوطة سيارة السلطان التي أوصلتنا إلى القصر.. وقف سمو السلطان في استقبالنا عند الباب وهو يلبس فوق ثيابه الإفرنجية عباءة بنية وعمامة ملفوفة هندي ومعه حاشيته ووزيره الأول السيد علوي الجفري.. عزفت الجوقة العسكرية (المزيكة) في لحج النشيد الوطني الأمريكي، صعد بنا إلى ردهة الاستقبال في الطابق الأول، وهي رحبة أنيقة جلية يدخل إليها نور الشمس في جلباب من التقوى يلبسه الزجاج الملون في النوافذ كأنه كنيسة، وتلطف السجف البيضاء المخرمة كأنها قصر إنجليزي.. في القاعة مجلسان، مجلس إفرنجي من صناعة الهند بجانبه آلة الفونوغراف ومجلس عربي (دواوين عربية) تقطعها المساند والوسائد، وبين المجلسين طاولة عليها مجلدات ضخمة، منها مجلدات شرح البخاري.. رحب بنا السلطان، وأجلسنا في المجلس الأول الذي يستقبل فيه ضيوفه من الإفرنج، ثم تبادل مع القنصل الأمريكي الكلمات.. فقال السلطان: «علاقتنا بالقنصل السابق في عدن جيدة، كان يتردد على لحج ويحظى بالحب والاحترام والكرم، ومن خلاله تعرفنا بالأمة الإمريكية التي يجهلها الكثير من العرب».. رد القنصل الأمريكي بالشكر والثناء على كلمة السلطان وأنه سينقلها إلى حكومته.. وبعد تناول القهوة نهض السلطان وقال: «هذا بيتكم أنتم تعبون».. وخرج تتبعه حاشيته إلى داخل القصر، تقدمنا إلى المجلس الثاني العربي وقال المستر كروس «سلطان متمدن».

في هذه الفترة شهدت لحج نشاطا عمرانيا وتوسعا في المساحة الزراعية وشق الطرقات وتشجير شوارع الحوطة وبناء القصور الكبيرة للأمراء والأثرياء وبناء المدرسة المحسنية التي أوقف الأمير محسن فضل أملاكه من أجل التعليم وبناء المستشفى، ويعود هذا النشاط للتعويض الذي حصلت عليه لحج بعد الحرب العالمية الأولى وما واجهته من خراب ودمار، وهذا ما جعل أمين الريحاني يصف الحوطة بالمدينة الحديثة فقال: «ما يدهش الزائر إلى لحج أنه يجد كثيرا من وسائل المدينة فيها، القصور للأمراء، وثقافتهم والمجلات التي تصل من القاهرة وسوريا والأستانة والكتب التي تملأ مكتبات الأمراء، وألواح الفونوغراف من أغانٍ مصرية وإنجليزية».. وعند وقت الطعام جلسنا على مائدة السلطان المتعددة والمتنوعة، فكان الطاهي شرقيا، خدم في مطبخ فندق أوروبي، وبعد الطعام جلسنا نشرب التنباك من (المداعة) الهندية ونسمع الأغاني من الفونوغراف، أو تفتح غرفة كبيرة بها البلياردو نقضي أوقات للعب فيها.

وصف أمين الريحاني بساتين الأمراء التي تجول فيها وأكل من ثمارها فقال: «أما محاسن لحج، وأكثرها في قصور الأمراء وبساتينهم، فإنك لتجد الشرق والغرب مجتمعين في كل شيء حتى في الأشجار والتفاح الشامي في جوار العنبى الهندي، والعنبى اللحجي أطيب من العنبى الهندي، والحنا وشجرة تعطي قطنا أفخر من دودة الحرير وتسمى شجرة القطن الحريري».

وصف أمين الريحاني السلطان عبدالكريم فضل فقال: «هو العربي الأصيل الصميم في حديثه وأخلاقه، أما ملابسه فهندية وأوروبية ملامحه عربية، نحيل الجسم مستطيل الوجه دقيق الأنف غائر العينين عصبي المزاج في الخامسة والأربعين من عمره، مثقف، يجيد اللغة الإنجليزية مهتم بالزراعة والسياسة والإدارة، له ذوق رفيع بالموسيقى، يحسن العزف على البيانو له رغبة في المطالعة، مهتم بتاريخ العرب».. مشينا معه صباح يوم إلى أحد تلك البساتين، فكان أول ما أوقف نظري رجال يحفرون بئرا، كما لو كانوا في أيام عاد وثمود، فما المانع من استخدام الآلات البخارية، ولحج صالحة للأبار الارتوازية، مع ما يجري فيها من مياه وادي تبن نهري الوادي الكبير والصغير.. وكنت وسمو السلطان في أحد بساتينه خارج المدينة فرأيت أحد العمال الذين يحرثون الأرض يصلي وهو واقف على صندوق كبير فيه ماء للقاطرة، حيث تنتهي سكة الحديد، وعامل من عمال الشركة يشتغل في تصليح مستودع الماء.

وصف أمين الريحاني شقيق السلطان أحمد فضل (القمندان) فقال: «أما شقيق السلطان أحمد وهو الجندي الفيلسوف، فحاد المزاج شديد اللهجة والبأس، فيحد في قلبه لا في ثيابه، كان يزورنا كل صباح وهو يحمل إلينا سلة ضخمة من الورود فينعش النفس، كما كانت ألوان ملابسه تنعش البصر، وكان حديثه ينعش العقل وهو لايتجاوز الأربعين، له شغف بالعلوم والفنون نادر في تلك الناحية القصية من البلاد العربية، ويطالع الجرائد والكتب والمجلات، ويحسن العزف على كثير من الآلات والطرب، ويدير الجوقة العسكرية التي أسمعتنا النشديد الأمريكي.

ولكن مهنه المتعددة لاتبعده عن الحقل والبستان، فهو مثل أخيه مزارع كبير يحب العمل في الأرض بيده.. أما رؤيته في المدنية الغربية فهو شديد لنزعته العربية، لايرى فيها الضرر الذي يتوهمه بعض الشرقيين.

فقد قال: «وما ضرنا إذا لبسنا الإفرنجي وكانت عقولنا سليمة ووطنيتنا صادقة، وإذا كانت قيمتي في هذه العمامة أو هذه الجنبية فلا كانت الجنبية ولا كانت العمامة ولا كنت أنا»».

وفي ليلة طال فيها السمر مع فيلسوف لحج وشاعرها أحمد فضل (القمندان) وأمين الريحاني وقسطنطين تبي قال أحمد فضل (القمندان): «وما التعصب وما المذاهب وكلها بلية الأمم ونكبة الأوطان.. لو كان العرب يعقلون لعلموا أن خلاصهم ها هنا» (وأشار إلى رأسه) لا ها هنا (مشيرا إلى قلبه).. نعم إنه العقل، وأنت يا حضرة الأستاذ أدرى بما قاله شاعر العرب الكبير أبو العلاء المعري: «إن العقل مصباح الحقيقة، والحقيقة أساس كل عمل صالح ثابت ومفيد سياسيا كان أم دينيا أما القلب فغالبا ضال»».

وبعد عودة أمين الريحاني من زيارته لصنعاء بعد عيد الأضحى استقبله طلاب المدرسة الفضلية.. فقال أمين الريحاني في حفل الاستقبال للطلبة: «إن لحج زاوية اليمن المباركة، وستصبح بفضل سلطانها زاوية العلم والتمدن، هذا إذا تم ما يقصده من استعانته بأساتذة من سوريا ومصر وأطباء من الإنجليز عونا له في هذا السبيل، حبذا منهم المساعدة في تأسيس مدارس وطنية».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى