وداعا درويش.. خذلتك الأمة وأطاعتك اللغة

> «الأيام» د. عبده يحيى الدباني:

> ورحل محمود درويش مضرجا بعطر الشعر ومياهه الطاهرة.. شاعر خذلته الأمة وأطاعته اللغة بموسيقاها وإيقاعها ومفرداتها وجمالها الذي لا ينضب وبعبقريتها الشعرية الخالدة.. حقا أطاعته اللغة وأنصفته وصنع منها وطنا وواقعا جديدين بديلين في ظل ضياع الوطن ولامنطقية الواقع، ولكن درويش بالقدر نفسه فتح في سماء اللغة أبوابا ودروبا جديدة بسلطان نبوغه الشعري الذي لايضاهى ولاريب، فالشعراء أمراء الكلام. رحل درويش متضخما بموسيقاه الشعرية الآسرة الساحرة التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها مع أنها متعالية في مدار الإعجاز الشعري.

كان يطلق على جمال موسيقاه وتفوقه في هذا الجانب الحيوي من جوانب الشعر «ثروتي الإيقاعية»، فيا لها من ثروة لن تنفد أبدا بعد أن أسكنها شعره، وانطلقت أصداؤها إلى ما عداه من شعر الأجيال الطالعة، كما انتقل صدى امرئ القيس عبر الزمان والمكان على امتداد محيط الشعر العربي.

شعر درويش على غنائيته العالية وموسيقاه الوافرة كان أبعد ما يكون عن الترف الفني، كان شعره نسيج وحده كفاحا وقضية وموقفا وفنا وتجديدا وتجريبا وسفرا نحو الأقاصي من غير انقطاع عن الينابيع. لم تتسع له فلسطين ولا البلاد العربية مكانا كما يتسع له العصر الحديث زمانا، ومن هنا فإن درويش شاعر كوني تاريخي، فهو في عصرنا الحديث مثل امرئ القيس في العصر الجاهلي، ومثل حسان بن ثابت رضي الله عنه في صدر الإسلام وجرير في العصر الأموي والمتنبي في العصر العباسي، فهؤلاء وغيرهم كثيرون تجاوزوا حدود زمانهم ومكانهم تجاوزا شعريا خالدا.

ودرويش هو شاعر القضية، وهو حامل لواء قضية الشعر، لم يضحِّ بالثانية في سبيل الأولى، ولا بالأولى في سبيل الثانية.. كان شاعر الجرح العربي، وقائد الحرف العربي ومايزال، ولسوف يظل، لأن العظماء لايموتون إلا موتا جسديا فحسب، وقد قال عن نفسه: «سأصير يوما فكرة سأصير يوما ما أريد.. سأصير يوما شاعرا».. فإن تكن هذه الأمة قد خذلت درويشا فسوف يطلع من أصلابها من سينصف قضيته وينتصر لها حتى تنتصر، فمثل رسالة درويش لاتذهب هدرا، ولو بعد حين، فالرسالة نفسها إنما هي منبثقة من ينابيع الحق والخير والجمال، ولن تجد لسنة الله تحويلا. كان درويش شاعرا في نثره، كما كان ناثرا في شعره على حد تعبير أستاذنا الدكتور عبدالله البار، ولكن شعره ظل شعرا عبقريا رغم ما فيه من المباشرة، ونثره بقي نثرا رغم ما تضمنه من العناصر الشعرية، فليس درويش من يجهل الخيط الرفيع بين الشعر والنثر، رغم انفتاح كل منهما على الآخر، أما أن يكون هناك نص هو شعر وهو نثر والعكس في الوقت ذاته، فهذا ضد طبيعة الفنون وخارج حدود التجريب، وهذا لايلغي وجود قصيدة النثر لأنها عمل شعري ولايلغي وجود النثر الشعري لأنه في الأخير نثر. وهكذا رحل محمود درويش بعد أن ألقى في باطن الأرض العربية بذور الحرية والحب والنضال والسلام والإنسانية والشعر الأصيل المتجدد، وغدا سوف تزهر وتثمر بإذن الله تعالى، فإن وعده الحق.

رحم الله شاعرنا الكبير والعزاء للإنسانية الحقيقية قاطبة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى