مقدمة ابن خلدون ومؤخرة العرب

> «الأيام» عبدالناصر النخعي:

> ابن خلدون اسم سمع به الكثير من العرب وتفاخروا به على عادتهم، وأكثر ما يعرف بمقدمته التي لم يستوعبها هؤلاء المفاخرون حق الاستيعاب، فلو استوعبوها لمحو أمية كثير من الأعداد الفلكية الهائلة التي تزخر بها العديد من الأمصار العربية، ففي المقدمة تجسيد واضح، وترجمة صادقة لما تعيشه قبائل العرب اليوم من تشرذم وانقسام، كما هو الحال في العراق، ولبنان، واليمن.

وفي المقدمة صورة فاضحة للسياسات العربية قديما وحديثا، وإن تظاهرت بعض الزعامات بلباس الحداثة والمعاصرة.

وقد سطر ذلك الحضرمي المنبت، والأندلسي الأرومة، والتونسي المولد، والمغربي المعاناة، والمصري المصير، سطر تراثا فكريا وريادة عالمية في كثير من الفنون، ما جعل أوروبا تقف إجلالا له وتعظيما، وأخذت تقتبس من ذلك الفكر وتهتدي به، وما علم (العمران) عنا ببعيد، ذلك العلم الذي فهمه الأوربيون واستوعبوه وشرحوه ليصبح فيما بعد مقررا على طلاب العلم في الجامعات والمعاهد العلمية تحت مسمى (علم الاجتماع)، وقد أقر أحد فلاسفتهم وعلمائهم قائلا: «ابن خلدون أعظم عقل ظهر في التاريخ البشري».

وقد أنجب الزمان مؤرخين، وشهود عيان على ما يحدث في أزمانهم وأمصارهم- وهم كثر- قبله وبعده، لكن أحدا منهم لم يكن بثقله، وفكره، لقد كان ابن خلدون غريبا في مجتمعه.

ففي حديثه عن علمه المسروق وفكره المنهوب نسمعه يقول: «.. هذا هو غرض هذا الكتاب، وكأن هذا الكتاب مستقل بنفسه، فإنه ذو موضوع، وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غزير الفائدة، أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص، وليس من علم الخطابة..».

المتأمل في هذه العبارات يجد أنها خارجة عن المألوف، تاركة للمعروف الذي كان سائدا آنذاك.

ومن المؤسف الذي يندى له الجبين أن تراثنا الإسلامي الذي نفاخر به اليوم ما عرفنا به إلا الغربيون، الذين قاموا بنبشه وبعثه، غير أنهم لم يكونوا منصفين الإنصاف كله عند نقلهم هذه الكنوز الفكرية، وفيما نحن فيه نجد ابن خلدون قد بدأ الاهتمام به من قبل الغربيين لأغراض سياسية ودينية تخدمهم في تتبع تاريخ البربر.

ومهما يكن من أمر فإن ابن خلدون يظل علما بارزا ومؤشرا واضحا على قدرة العقل العربي على التأثير في الثقافة الإنسانية، وخير دليل على ذلك استقراء الدراسات الجامعية والبحوث العلمية التي نال أصحابها (الغربيون) درجات أكاديمية على تناولهم بالبحث والتدقيق والدراسة لعبدالرحمن بن خلدون (إنسانا - عالما - مفكرا - مصلحا..).

لقد امتلك الرجل رؤية ثاقبة في تكوين المجتمعات ولاسيما العربية، جدير بنا أن نلم بهذه الرؤية قبل أن نلهث وراء المصطلحات الغربية من حداثة وعولمة.

فمن أهم المسائل التي حذر منها ابن خلدون اشتغال رجال السلطة والحكام بالتجارة وجمع المال، وأنذر المجتمع كله بالانهيار الاقتصادي، وذهاب ريح الدولة، وانكسار شوكتها، إن هم فعلوا ذلك، فقد قال: «إن التجارة من السلطان مضرة بالرعاية، ومفسدة للجباية..(أي نظام الضرائب الذي تستعين به الدولة)». فهذه الجمل كأنها كتبت البارحة لتناقش ما يعانيه رعايا حكام العرب في هذا العصر.

ومن المظاهر التي تحدث عنها ابن خلدون ظاهرة التسلط ونفوذ السلطان في كل صغير وكبير، وفي كل جليل وحقير، وفي ذلك إيذان بزوال حكم السلطان من خلال انقلاب الرعية عليه، وتعاونهم مع أعدائه للتخلص منه، وما العراق عنا ببعيد، ونسمعه يهمس قائلا: «الظلم مؤذن بخراب العمران».

وفي لمحة عجيبة من عجائبه يصور ابن خلدون المجتمع المدني (المدينة) وكأنه قد وقف عاجزا عن إقامة سياسته التي يدافع بها عن نفسه، فأهل المدينة يفتقرون إلى القوة التي يدافعون بها عن دولتهم، ويحتاجون دائما إلى غيرهم في نصر سلطانهم، فيقول: «وأهل الحاضرة عيال على غيرهم في المدافعة والممانعة».

وهذه حقيقة قائمة في عصرنا هذا، فأهل الريف والبدو يمثلون القوى المجتمعية الضاربة وراء الانقلابات العسكرية في بقاع الوطن العربي الكبير.

وبحسب النظرية الخلدونية، فإنه كلما انغمس البدو في ترف الحضارة المدنية فقدوا منعتهم الحربية، وتعرضوا لغزو بدوي جديد من محاربين جدد.

وهذا غيض من فيض للإبحار في فكر الرجل، وليتوقف الباحث والمفكر طويلا أمام المقدمة، ويقرأها بتأنٍ، بل يعيد قراءتها، ففيها تشخيص لكثير من الأمراض المجتمعية التي نعاني منها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى