الوجه الآخر للدولة

> برهان أحمد إبراهيم:

> الدولة، مسألة بشرية، فرضتها على الإنسان طبيعته الاجتماعية، وأوجبتها حاجته إلى العيش في سلام مع الآخرين، وهذا ما ذهب إليه ابن خلدون، بقوله: «.. إن الاجتماع للبشر ضرورة..» (المقدمة: ص240) لذلك، ظلت مسألة تطوير الأنظمة الاجتماعية والسياسية، مثار تفكير الإنسان، منذ أن وعى ذاته، وأوقن أن أمر وجوده مرتبط بالاجتماع (أسرة/قبيلة/عشيرة/ قرية/ دولة) أو بما سماه ابن خلدون: «.. وازع حاكم يرجعون إليه..» (ص 240).

ولأن الدولة ليست نتاج عقل واحد، أو حياة واحدة، وإنما هي «.. نتاج لنمو وتطور بطيء ومطرد، امتد عبر فترة طويلة جدا من الزمن..» (د.محمود إسماعيل محمد: دراسات في العلوم السياسية، ص 79)، فقد عكست (الدولة) في تطورها التاريخي عظم التراكم المعرفي والعملي الذي حققته البشرية أثناء سير تقدمها، لتأسيس وتطوير مدنياتها، وبخاصة بعد أن أدركت الشعوب أن التحول الحضاري لن يحدث على يد البطل الفرد، أو الزعيم الملهم وفق النمط الملحمي، ولكن يحدث على يد الجماعات، أو ما أسماه هربرت سبنسر 1820 - 1903 «الحكمة الجماعية»، وهذا الإدراك دفع المجتمعات إلى إخضاع الدولة، ودون انقطاع، للدرس والنقد، ولإعادة النظر فيها لتكييفها ولتطويرها.

لذلك، كان من الطبيعي أن نرى «.. المجتمع يضيف دائما إلى الأنظمة الاجتماعية التي من شأنها أن تهيئ الراحة المادية، والنظام السياسي، أنظمة أخرى..» (ول ديورانت: قصة الحضارة، المجلد الأول، ص 055) وكلما تمكن المجتمع، من تحديد طبيعة السلطة، وتوزيعها (العقد السياسي)، وتحديد علاقة الدولة بالمجتمع أي الحقوق والواجبات (العقد الاجتماعي)، استطاع السيطرة على الدولة، وضبط أدائها، وتوجيهها نحو غاياته المنشودة، فإذا بالدولة في وقتنا الراهن تعد مكسبا حضاريا، تتماهى بها المجتمعات، وتراهن عليها، لاستنهاض وتجديد مدنياتها، وللانخراط والمشاركة في مسيرة الحداثة العالمية، كمجتمعات (دول) منجزة، يشكل عطاؤها إضافة نوعية في رصيد النظام العالمي الجديد.

ولكن يحدث بسبب حكام أنانيين، أن تتحول الدولة (المحدَث/ الوسيلة) إلى قوة غاشمة، تستعبد من أحدثها (المحدِث/المجتمع) فيخشاها رهبة أو يصنّمها تقديسا!!، وكأنها لم تكن يوما من بنات أفكاره، ونتاج ممارسته الحياة، وإنما تصبح وكأنها قوة جبارة هبطت عليه من السماء، فيسلم مصيره لها، دون اعتراض، ليفتح الباب لحظتها للشيطان، ويقترن الشر بالدولة، كما هو حالها، في عالمنا العربي، حيث ظلت الدولة خارجة عن المجتمع، لاتحسن أمرا سوى مواجهته وقمعه، حتى ارتبطت صورتها في ذهن المجتمع العربي بمعاني العبودية والاستلاب.

ومرد ذلك، أن الدولة في واقعنا العربي، قد تم إخصاؤها، بحرمانها من بناء وتطوير نفسها، كوسيلة لتنظيم المجتمع، وحماية توازنه، فمنذ مرحلة ما بعد الاستعمار، وإلى وقتنا هذا، شهدت الدولة عملية هدم لأسسها، إذ منيت في جولتها الأولى بهزيمة أمام تسلطية الشرعية الثورية التي لم تسلم بالاختلاف، إذ إن حديثها عن المواطنة والحرية والعدالة والمساواة لم يمنعها من ضرب القوى الاجتماعية والسياسية الأخرى بدعوى التطهير والتحرر من تركة الماضي، مقابل فرضها نظاما سياسيا واحدا، فإذا بها دولة عرجاء، وسرعان ما تحولت إلى دولة الحاكم الفرد وأسرته، بغطاء حزبي أو فئوي أو قبلي، وبهذا جسدت أزمة الدولة فساد الواقع السياسي العربي وانحطاط أخلاقياته!.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى