السنباطي في مسلسل أم كلثوم

> «الأيام» عمر جبلي:

> لانجانب الصواب إذا قلنا إن مسلسل (أم كثلوم) قد تكاثرت فيه مقومات عديدة تجعله جديرا بإعادة عرضه عدة مرات، ولعل من أهم عوامل إعجاب المشاهدين بذلك المسلسل أنه لامس وجدان بضعة أجيال من المعجبين بفن أم كلثوم، وما أكثرهم بطبيعة الحال، إذ إنهم عاصروها كل جيل على مدى أحقاب متلاحقة منذ الثلاثينات إلى أوائل السبعينات من القرن الماضي.. دع عنك الذين أعجبوا بفنها بعد وفاتها، فبحكم أعمارهم لم يكن بوسعهم معاصرتها ومتابعة نشاطها الفني أثناء حياتها، إنما أتيح لهم ذلك من خلال التسجيلات الإذاعية والتلفزيونية التي مابرحت تذاع- وبانتـشار واسع- حتـى الآن.

وطوال العصر الذهبي للغناء العربي، كان يقال على سبيل المجاز أن مائة مليون عربي يجتمعون حول الراديو لسماع أم كلثوم في أول خميس من كل شهر، مما يدل على مدى استحواذها على إعجاب قطاع كبير من الجماهير في ذلك العصر.

ويجدر بالذكر أن الفئة الغالبة من المستمعين يعجبون بأغنيات أم كلثوم بصرف النظر عن من هو ملحنها أو مؤلفها، غير أن هناك فئة أخرى يزداد إعجابها بالأغنيات التي يلحنها رياض السنباطي.

لذا لاشك أن هذه الفئة- أو بالأحرى من تبقى منها- سيجتاحها الرضى وسيملؤها الامتنان لمؤلف ومخرج المسلسل حينما أفسحا المجال لسيرة جانبية لرياض السنباطي على هامش سيرة أم كلثوم، فأظهر المسلسل رياض السنباطي دمث الأخلاق، هادئ الطبع، لايتدخل في شؤون غيره، واثقا من مقدرته الفائقة في صياغة الألحان المتميزة لأم كلثوم، فلم تشغله المكايدات الفنية ومناوراتها التي ما انفكت تستعر بين بضعة من الرموز الفنية عن ممارسة إبداعاته الفنية، فنأى بنفسه عن حلبة المكايدات والمماحكات وربأ بفنه فوق معمعاتها التي افتقرت إلى الجدوى الفنية، وانزوى في صومعته، وترك الناس في دنياهم الصاخبة، واختلى بأنغامه وألحانه الخالدات.

لذا اتسمت شخصية رياض السنباطي في المسلسل بالفنان القدير الذي نال احترام زملائه إلى درجة أن محمد عبدالوهاب تقرب إليه ذات يوم وعرض عليه الغناء المتبادل بينهما، أي أن يغني رياض السنباطي (كليوباترا) و(الكرنك) ويغني محمد عبدالوهاب (على عودي) و(إله الكون سامحني أنا حيران).

رب قائل بأنها كانت مناورة فنية من مناورات محمد عبدالوهاب لغرض في نفسه أثناء المنافسة الحادة بينه وبين أم كلثوم في ذلك الزمان، والدليل على ذلك أن المشروع لم يتحقق، غير أن دليلا آخر كان يؤشر إلى المكانة المرموقة التي كان يحتلها رياض السنباطي لدى زملائه الفنانين وعلى رأسهم محمد عبدالوهاب، ولايستطيع أحد أن يجزم بأن رياض السنباطي كان يدرك مناورة عبدالوهاب، ولكنه من باب الأدب لم يكن أمامه سوى مجاراته، أو أنه من جانب آخر لم يدركها- ربما لحسن ظنه- فعول عليها على اعتبار أنها مبادرة تستحق الاهتمام لما يمكن أن تحدثه من إنجاز موسيقي لا مثيل له في ذلك الحين.

وإذا عُدنا إلى الوراء سنجد أن رياض السنباطي كان أحد الملحنين الثلاثة الكبار الذين استعانت بهم أم كلثوم لتحلين أغنياتها إلى أن شارفت أعوام الأربعينات على النهاية، فإذا بمحمد القصبجي يجف نبعه الموسيقي ولايستطيع أن يقدم لحنا لأم كلثوم بعد رائعته (رق الحبيب)، وإذا بخلاف ينشب بين أم كلثوم وزكريا أحمد بلغ مداه أروقة المحاكم، مما جعل عودة التعاون الموسيقي بينهما غير واردة على المدى القريب حينئذ، فخلا الجو لرياض السنباطي كي يستأثر بكل الأعمال الموسيقية لأم كلثوم طوال الخمسينات، وكان كفيلا بأن يضطلع بتلك المهمة العظمية، فقد حباه الله مقدرة فائقة في صياغة ألحان رصينة تليق بمكانة أم كلثوم التي لم ترَ غيره جديرا بتلحين القصائد لها، ابتداءً من (سلوا كؤوس الطلا) و(سلوا قلبي)، مرورا بـ (ثورة الشك) و(رباعيات الخيام) و(الأطلال)، وانتهاءً بـ (من أجل عينيك عشقت الهوى)، إضافة إلى أغنيات شهيرة أخرى، أبرزها (عودت عيني) و(لسة فاكر) و (أروح لمين).. إلخ، كما أن أم كلثوم استعانت برياض السنباطي كي يلحن لها الأغنيات الوطنية مثل (مصر التي في خاطري) والأناشيد الثورية مثل (ثوار) و(طوف وشوف)، أما الأغنيات الدينية لم يرتق أحد من الفنانين إلى ما ارتقى إليه رياض السنباطي من سمو، حينما لحن لها (وُلِد الهدى) و(نهج البردة) و(حديث الروح)، وآخر لحن ديني قدمه لها كان (القلب يعشق كل جميل).

وقد لوحظ أن المسلسل قد أسهب في سرد تفاصيل الأحداث التي مرت بها أم كلثوم منذ صِباها حتى بلغت من العمر الفني اكتمال النضوج، ومن المكانة الاجتماعية منزلة عالية سلمت وأقرت بها أغلبية قطاعات الشعوب العربية وطبقاتها، بيد أن المسلسل أغفل مرحلة وربما بضع مراحل من حياة رياض السنباطي، غير أن جهودا جبارة بذلت ومساعٍ حثيثة سلكت تصبو إلى إسدال ستار سميك يحول دون ظهور ذلك التوتر، لكيلا يضحى عرضة للتمحيص والتكهن والتأويل، وربما يجوز لنا القول إن مرد تلك الجهود والمساعي هي الإجلال والاحترام لكل من أم كلثوم و رياض السنباطي، غير أن آثار ذلك التوتر مالبثت أن ظهرت على تصرفات كل منهما، مما جعل مداراتها أمرا غير ممكن.

وبصرف النظر عن أسباب ذلك التوتر، إلا أن واقعة حضور أم كلثوم وبليغ حمدي، كل على حدة، حفلا في منزل محمد فوزي عام 1959، واستماعها صدفة لمطلع أغنية (حب إيه) التي دندن بها بليغ حمدي أثناء الحفل، ومن ثم أعجبت أم كلثوم بالأغنية وقررت غناءها، كانت نقطة تحول كبرى في علاقة أم كلثوم برياض السنباطي. حيال تلك الواقعة أقدم رياض السنباطي على سابقة لم يتجرأ أحد من الملحنين قبله أن يقوم بها، ألا وهي أن يعهد إلى وردة الجزائرية بأداء أغنية (ياظالمني) التي سبق أن لحنها وغنتها أم كلثوم، وكانت من أشهر أغنياتها حينئذ.

وكانت وردة في بداية حياتها الغنائية في مصر، حينما احتضنها رياض السنباطي ولحن لها أغنيات ذائعة الصيت منها (حاقولك حاجة) و(لاتودعني حبيبي) وبعد ذلك أغنية (يالعبة الأيام)، وتيمنا برياض السنباطي سمت ابنها (رياض)!.

وراء ذلك الستار السميك الذي لم يظهر بواعث تلك الوقائع، عادت المياه إلى مجاريها بين أم كلثوم ورياض السنباطي، غير أن السنباطي استرجع نشاطه معها في مستهل الستينات، ليس كما كان في الخمسينات، وإنما بالاشتراك مع بليغ حمدي، وأيضا مع زكريا أحمد الذي اصطلح مع أم كلثوم، فغنت له (هو صحيح الهوى غلاب)، فلم يعد رياض السنباطي، والحال كذلك، المستأثر بتلحين أكثر أغنيات أم كلثوم، مثلما كان طوال الخمسينات.

وحينما رضخت أم كلثوم لرغبة الرئيس جمال عبدالناصر بالغناء من ألحان محمد عبدالوهاب إذا بضجة إعلامية صاحبت أغنية (أنت عمري) أطال أمدها عبدالوهاب بذكائه الإعلامي، ليجعل (أنت عمري) أسطورة غنائية، وكأن أم كلثوم لم تغن قبلها ولن تغني رائعة بعدها.

ومنذ (أنت عمري) تقوقع رياض السنباطي في مربع تلحين القصائد الشعرية لأم كلثوم، سواء أكان ذلك بقناعة منه أم حسب إستراتيجية أم كلثوم الفنية، فعهدت إليه تباعا بتلحين (أراك عصي الدمع) في عام 1964 و(الأطلال) في عام 1966 و(حديث الروح) في عام 1967 و(أقبل الليل) في عام 1970، وأخيرا (من أجل عينيك) في عام 1972، وبالتالي انحرم جمهور أم كلثوم عامة ومحبو فن رياض السنباطي خاصة من الاستمتاع بأغنيات باللهجة الدارجة على غرار (الحب كده) و(حيرت قلبي معاك) و(حسيبك للزمن).. إلخ، وكانت آخر أغنية لحنها السنباطي باللـهجة الدارجة هي (القلب يعشق كل جميل).

تلك إذن خواطر تواردت في أذهان عشاق فن رياض السنباطي عامة، والمغالين في عشق فنه- وأنا منهم- خاصة، وذلك كلما شاهدوا إعادة لحلقات مسلسل أم كلثوم، ولاشك أنهم أكبروا في عمار الشريعي الذي أسندت له مهمة الإعداد الموسيقي للمسلسل، ولاشك أنهم أكبروا فيه اختيار موسيقى أغنيات أم كلثوم التي لحنها رياض السنباطي لتصاحب مقدمة الحلقات من بدايتها حتى نهايته، بينما أشرك عبدالوهاب وبليغ حمدي ومحمد الموجي لتتساوى ألحان كل منهم لأم كلثوم في نهاية الحلقات، وتلك إيماءة من عمار الشريعي للمنزلة العالية التي تبوأها السنباطي في ملكوت الموسيقى، وتقدير منه لروائع الألحان التي قدمها لأم كلثوم مقابل ما تناثر من ما قدمه لها بقية الملحنين.

في الأخير.. ينبغي ألا تفوت هذه الفرصة دون الإشارة إلى من قام بدور رياض السنباطي في المسلسل وهو الممثل أيمن عزب الذي نال رضا واستحسان عشاق فن رياض السنباطي لما قام به من تجسيد لشخصية السنباطي أمام من لهم باع كبير في التمثيل مثل أحمد راتب وعبدالعزيز مخيون وصابرين وكمال أبو رية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى