قراءة في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للكاتب السوداني الطيب صالح.. الكاتب والباحث أحمد محمود القاسم:

> «الأيام» عن «واتا الحضارية»:

> تعتبر رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) السودانية للأديب السوداني الطيب الصالح، من الروايات التي انتشرت واشتهرت كثيرا على المستوى العربي والدولي، فهذه الرواية، ترجمت إلى كثير من اللغات الأجنبية، كما اعتمد تدريسها في بعض الجامعات العربية، كذلك مُنعت من دخول بعض الدول العربية، لما فيها من بعض الإيحاءات الجنسية، وقد تناول كثير من النقاد هذه الرواية، فيما إذا كانت تعبر عن المجتمع السوداني بشكل أو بآخر.

تدور أحداث الرواية حول شخص سوداني يدعى (مصطفي سعيد)، إبان الاحتلال الإنجليزي للسودان، أظهر ذكاءً حادا خلال مراحله التعليمية، وفي إجادته لتعلم اللغة الإنجليزية، فتمكن بمساعدة الإنجليزية السيدة روبنسون، التي سبق وتعرف عليها، أن ترسله إلى مصر لمواصلة تعليمه الثانوي، ثم أرسلته الى إنجلترا لمواصلة تعليمه العالي، وحصوله على إجازة الدكتوراه في الاقتصاد، وخلال دراسته هذه، استوعب حضارة انجلترا والغرب بصفة عامة، فعاش في تلك الحضارة، وبعد تخرجه عمل على تدريس مادة علم الاقتصاد في جامعات بريطانيا، وتعرف على نساء الغرب وتزوج العديد منهن، وانتحل الأسماء الكاذبة، ليوقع الأوروبيات في شباكه، وصار ينتقل من واحدة إلى أخرى، وبسببه انتحرت عدة فتيات بريطانيات، وفي النهاية عاد إلى السودان في قرية نائية من شمال السودان، بعد أن قضى سبع سنوات في السجن، بسبب قتله امرأة إنجليزية تدعى (جين موريس)، وانتهت حياته غرقاً في النيل بظروف غامضة، لم تعرف أسبابها بعد إعادته الى موطنه في السودان.

الرواية تتحدث عن شخصية بطل الرواية (مصطفى سعيد)، ومغامراته النسائية في انجلترا أثناء فترة دراسته الجامعية، ومن ثم عودته الى وطنه السودان.

فهو قادم إلى المملكة المتحدة، من بلد عربي أفريقي متخلف وفقير كالسودان، وبعيد كل البعد عن مظاهر الرفاهية والحضارة الأوروبية، وعاش في مجتمع آخر، مغاير للموطن الذي قدم منه، بكل ما في الكلمة من معنى، وشاهد بأم عينيه الاختلافات الشاسعة في العادات والتقاليد والانفتاح المبهر بين بلده وهذا المجتمع الذي عايشه لفترة طويلة من الزمن، وتأقلم فيه، وتفاعل وتزوج من نسائه الحسناوات الشقراوات والبيضاوات اللون، والذي كان يعتبر كالحلم، لبعض من يحملون البشرة السوداء، خاصة أن مصطفى سعيد ذو سحنة أفريقية سوداء.

ولكونه يظفر بامرأة شقراء وبيضاء وأوروبية، يعتبر في مفهوم البعض في حينها، من المكاسب الكبيرة التي يصعب تحقيقها، وإن كان هناك بالمقابل ميزة للأوروبيات، في حصولهم على زوج أفريقي اسود اللون، لما يشاع عن السود الأفارقة، بأنهم ذوو قوة جنسية فائقة ومميزة.

حقيقة يمكن القول إن القصة في معظمها، تعطي صورة حية، لشخص يود الانتقال من المجتمعات الأفريقية والعربية المتخلفة الى المجتمعات الأوروبية المنفتحة، من أجل الحصول على العلم أو العمل، وما يمكن أن يتعرض له من أحداث ومواقف، قد تكون مشجعة على الهجرة عند البعض، وقد تكون منفرة عند البعض الآخر.

المعتاد، في الكثير من الروايات والقصص المتداولة بين الناس، في الكثير من المجتمعات العربية وغيرها من الدول المتخلفة، الإشادة كثيرا من قبل البعض، الذين درسوا أو عملوا في مجتمعات الدول الأوروبية، وشاهدوا تقدمها وتحررها الاقتصادي والاجتماعي، وتقديرها للأفراد الوافدين، وتمتعهم بالحرية والديمقراطية والعدالة، وغيرها من الشعارات الدالة على الحقوق الإنسانية، والمساواة بين المواطنين وغيرهم من الوافدين، خاصة أن هذا ما يفتقده المواطن العربي في البلاد العربية، وكذلك في الدول المتخلفة الأخرى، وهذا من أسباب عدة، يدفع البعض للإشادة وكيل المديح بلا حدود للمجتمعات الأوروبية.

الانطباع في هذه الرواية، مختلف نسبيا عما اعتدنا على سماعه من أبناء بعض الدول، الذين سافروا وتعلموا في الغرب، وعادوا محملين بالاحتقار لثقافتهم ولأمتهم.

في هذه الرواية، فإن بطلها مصطفى سعيد، يرجع إلى موطنه بكل شوق وحنين، ومتلهف إلى هذه العودة حيث يقول في الرواية:

«المهم، أني عدت، و بي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة، عند منحنى النهر، سبعة أعوام وأنا أحن إليهم وأحلم بهم، ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة، أن وجدتني حقيقة قائماً بينهم، فرحوا بي، وضجوا حولي، ولم يمض وقت طويل حتى أحسست، كأن ثلجاً يذوب في دخيلتي، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس. ذاك دفء الحياة في العشيرة، فقدته زمناً في بلاد تموت من البرد حيتانها. تعودت أذناي أصواتهم، وألفت عيناي أشكالهم من كثرة ما فكرت فيهم في الغيبة...».

يتابع العائد من الغربة وصفه الدافيء للنخيل والرياح، وحقول القمح والطمأنينة التي يمنحها له موطنه ومسقط رأسه.. فيقول:

«أحس بالطمأنينة. أحس أني لست ريشة في مهب الريح، ولكني مثل هذه النخلة، مخلوق له أصل، وله جذور وله هدف».

في موقع آخر من الرواية يصف جده قائلا:

«تمهلت عند باب الغرفة، وأنا استمرئ ذلك الإحساس العذب، الذي يسبق لحظة لقائي مع جدي كلما عدت من السفر. إحساس ضاف بالعجب، من أن ذلك الكيان العتيق ما يزال موجوداً أصلاً على ظاهر الأرض، وحين أعانقه، أستنشق رائحته الفريدة، التي هي خليط من رائحة الضريح الكبير في المقبرة، ورائحة الطفل الرضيع... نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوروبي، فلاحون فقراء، ولكنني حين أعانق جدي، أحس بالغنى، كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه».

بطل الرواية (مصطفى سعيد)، يمكن فهمه من الرواية، بأنه أحد أبناء الطبقة الكومبرادورية التي اعتاد الاستعمار الأوروبي بناءها أثناء احتلاله للمستعمرات، في كافة أنحاء العالم، حيث يتمكن المستعمر من خلالهم، من التواصل مع البلد المحتل، حتى بعد زوال الاحتلال، كي يمكنه من خلالهم السيطرة على اقتصاديات البلد المحتل، وقد قدم هذا الشخص، خدمات كثيرة للمحتل البريطاني، كغيره من الفئات المستفيدة من الاحتلال، من خلال ما كان يكلف به من أعمال خاصة، يقوم بها خدمة لمن عملوا على تعليمه وتوظيفه.

يبقى التنويه إلى ظاهرة الهجرة إلى الدول الأوروبية من الدول الأفريقية والعربية من شمال أفريقيا بشكل خاص، والتي يدفع الكثير منهم حياتهم ثمنا لها، حتى قبل أن تطأ أقدامهم تلك البلاد، فعليهم أن يتعرفوا بشكل جيد على تلك المجتمعات، وعلى عاداتهم وتقاليدهم، وما سوف يؤول إليه مصيرهم من أجل هذه الهجرة، فالطريق ليست معبدة بالورود والرياحين، والصورة الوردية والانطباعات الحالمة عن تلك المجتمعات، ليست كما يتصورها البعض أو كما صورت لهم، فهي حبلى كثيرا بالآلام والأحزان والمفاجآت والمآسي، فالكثير ممن هاجروا ورجعوا الى أوطانهم، عادوا بخفي حنين، وقتلتهم الغربة كثيرا، ومزقت نفوسهم، وتمنوا لو أنهم لم يتركوا أوطانهم، وعاشوا على الكفاف، بدلا من عيشة الضياع وآلام الغربة، والمعاناة من العنصرية والبرد القارس والاضطهاد.

اتصف أسلوب الأديب الطيب صالح، بالوصف الدقيق والمشوق لبعض الأماكن في الريف السوداني، ولبعض عاداته وتقاليده العربية - الإسلامية، وقد أدخل في روايته بعض فقرات تتصف بالإيحاء الجنسي المحدود، كعنصر للتشويق لروايته أثناء السرد، والمستغرب أن الحديث الجنسي كان يدور بين مجموعة من الرجال من كبار السن، وأيضا مع إحدى النساء المخضرمات في هذا المجال، وبأسلوب تهكمي أحيانا، وهذا حقيقة مستهجنة في المجتمعات العربية عامة وفي السودان خاصة، وإن كان موضوع الجنس قد ظهر بأسلوب رومانسي لبعض الكتاب العرب أمثال نجيب محفوظ، مروراً بإحسان عبد القدوس وغيرهم في القرن الماضي.

يبقى أن ننوه أيضا، إلى أن معظم المناطق الجنوبية في بعض دول العالم تتصف بالتخلف، لهذا فإن الكثير من سكان المناطق الجنوبية في شتى أنحاء العالم يرغبون بالهجرة والانتقال إلى المناطق الشمالية، اعتقادا منهم بأنها تتصف بالتقدم والرخاء، وتوفر ظروفا أكثر ملائمة للعيش الكريم من المناطق الجنوبية.

شخصية مصطفى سعيد يمكن اعتبارها واحدة من الشخصيات التي يعمد المحتل والمستعمر إلى تبنيها وبنائها كما يجب، كي تخدم مصالحه في مرحلة من المراحل، لذلك فهو يختار الأفراد الذين يتمتعون بالذكاء ويملكون الشخصية القوية والجرأة والشجاعة، ويرسلهم للتعلم ورفع كفاءتهم ومستواهم على الصعيد العلمي والعملي، ولايبخل في الصرف عليهم وإغذاقهم بالمال والامتيازات المادية وغيرها، كما يعمل في أحيان كثيرة على مساعدتهم على تبوئ أعلى المناصب الحكومية، حتى تخدم مصالحه باستمرار فيما بعد، ويقال إن معظم رؤساء الدول الأفريقية وغيرهم من أصحاب المناصب الرفيعة وصلوا إلى مراكزهم العالية عبر المخابرات الأوروبية وغيرها، وهم بمثابة عملاء مزروعين في دولهم، من أجل خدمة مصالح الاستعمار.

يبقى أن نذكر أيضا أن أحداث الرواية حدثت في مرحلة العشرينات وحتى الخمسينات من القرن المنصرم، إبان سيطرة المحتل الإنجليزي على ربوع السودان.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى