> «الأيام» د . أحمد صالح رابضة:

صورة تجمع د. رابضة بالأستاذ الجليل المؤرخ القاضي إسماعيل بن علي الأكوع طيب الله ثراه في منزله بصنعاء في أغسطس2007
صورة تجمع د. رابضة بالأستاذ الجليل المؤرخ القاضي إسماعيل بن علي الأكوع طيب الله ثراه في منزله بصنعاء في أغسطس2007
هي كلمة وفاء ليس إلا، أحررها وأنا ممتد كما يفعل شيخنا ومؤرخنا وصديقنا الكبير القاضي إسماعيل بن علي الأكوع - طيب الله ثراه - وهو يبيض مسودات موسوعته الضخمة (هجر العلم ومعاقله في اليمن)، وقد بلغ من العمر عتيا وشتان بين اليزيدين في العمر والفكر والمكانة العلمية والعالية.

وقد جرت العادة أن أهاتفه بين الحين والآخر مستفسرا إياه عن مسألة ما في التاريخ، فنتجاذب معا أطراف الحديث، ونمد أطرافه في كثير من الأحيان، معرجين على تاريخ عدن التي يحبها حبا جما، فيحدثني عن تاريخ الحركة الوطنية فيها في الستينات وما قبلها، مشيرا إلى مطابعها العتيقة ومكتباتها العريقة، ومنها مطبعة ومكتبة كانتا تتخذان لهما موضعين في شارع حسن علي الذي أقطن فيه، وقد اندثرتا الآن.

وفي الآونة الأخيرة لاذ شيخنا بالصمت على حين غرة وهجر القلم والقرطاس والكتاب والحوار، وما عاد يقوى على الحركة والنطق، وهو الذي كان مصباحا منيرا من مصابيح العلم والفكر والهدى، فرحم الله أستاذنا وصديقنا الكبير، وطيب الله ثراه، فقد كان عالما نحريرا ومؤرخا حصيفا وبلدانيا ماهرا، فمن روائع مصنفاته التاريخية (هجر العلم ومعاقله في اليمن) سالف الذكر الذي جمع مادته العلمية خلال عقدين من الزمان، وأكثر من الترحال في سبيله إلى عواصم العالم المختلفة والتجوال في مكتباتها الخطية المتعددة كالامبروزيانا والمتحف البريطاني ومكتبات اسطنبول وبرلين وأسبانيا بحثا عن نوادر المخطوطات وروائع المصنفات.

ومن بلدانياته البديعة مصنفاته (البلدان اليمانية عند ياقوت الحمري) و(مخاليف اليمن) ومجموع بلدان اليمن ومخاليفها (تحقيق) و(المدخل إلى معرفة هجر العلم ومعاقله في اليمن).. وتميز فيها بمجملها بتركيزه على الوحدة الجغرافية والعرقية في الوطن والنصفة والاستقصاء.

أما في الأدب، فنحسب أنه جمع مادة غنية في كتابه (الأمثال اليمانية) تنم عن تذوق أدبي رفيع، وقبل أن يتحلل من قيود الوظيفة والسياسة أمعن التفكير مليا في تأسيس الهيئة العامة للآثار والمخطوطات ودور الكتب، وكان الرجل المناسب بحق في الموضع المناسب، ففي عهده وعهود أسلافه من القياديين العلماء كانت الهيئة مزارا للعلماء والباحثين من شتى أنحاء العالم، وكان له الدور الفاعل في تزويدها بالمخطوطات والوثائق وأمهات الكتب بحكم علاقاته الواسعة بالمفكرين وأهل الرأي والفكر في العالم العربي الإسلامي والغربي على حد سواء، وكان حريصا الحرص كله على مقتنياتها، ومع ذلك لا يضن بها على الدارسين والباحثين والعلماء، فيفتح لهم أبواب المكتبات الخطية حتى أن بعضهم كان يقضي وقته كله صباحا ومساء بين ظهراني الكتب والمخطوطات.

وقد انتقده بعض هؤلاء وأفاض البعض الآخر في نقده متجاوزين حدود النقد البناء، لكنه كان لا يكثرت لطنين الأجنحة، فهؤلاء وأولئك تلامذته وأبناؤه وعيال عليه في فكره وعلمه.

ومن علو همته كانت داره في صنعاء مزارا وملاذا للدارسين والباحثين والعلماء والمفكرين ينهلون منها كيفما شاؤوا قراءة وتصويرا ونسخا، ليس فيه شح، فيضن بمقتنيات مكتبته على الرواد على الأخص الباحثين والعلماء منهم، فهو يدرك أن العلم بحر زاخر، وأنه اليوم يملأ الأرض والسماء ويتجول في الأفق والفضاء، وأنه في الغد راحل لا محالة لا يحمل غير حسن الذكر فحسب.

كان منصفا فيما يكتب، فلا غلو ولا تزيد، كل قديم جيد عنده خليق بالإعجاب لرصانته، وكل حديث رث جدير بالنقد البناء لصقله وإظهار ما خفي من حسنه، ليس في مجال التاريخ فحسب، بل في كل مجالات تاريخ العلوم، ولعله لهذا السبب وجه إليه بعض المتزيدين سهامهم وهم أولئك الذين بسط عليهم جناح عطفه ورعايته فيما تقدم من الأيام.

وكيفما كان الحال فقد سعدت كثيرا بلقاءاته المتجددة في عدن وصنعاء، حيث توج هذه اللقاءات بحضوره ندوة المئوية الثامنة للمدرسة الياقوتية في رحاب جامعة عدن التي دعاه إليها الأستاذ الفاضل الدكتور صالح علي باصرة رئيس جامعة عدن سابقا وزير التعليم والبحث العلمي حاليا وأكرم وفادته ووجه بطباعة كتابه (الدولة الرسولية في اليمن).. وكنت عضوا في اللجنة المشرفة على هذه الندوة ومن جميل صنعه وإنصافه فقد ذكرني في مقدمة كتابه سالف الذكر ذكرا حسنا.

تجدر الإشارة إلى أن مؤرخنا الكبير قد ألمح إلى هذه المدرسة في كتابه القيم (المدارس الإسلامية في اليمن) مستندا إلى رواية بامخرمة في كتابه (النسبة إلى البلدان).

رحمة الله عليك أيها المؤرخ الجليل، فقد وهبت حايتك بحق للعلم والتاريخ والأمة، فمازالت الشمسية تحن إليك، وما انفكت الياقوتية والعامرية ترقبان نظراتك الثاقبة، ومافتئت هجر العلم وأربطته الإسلامية تتهلف لرؤيتك وأنت تطل عليها باحثا مستقصيا لا تلوي على شيء.. كل هذه الجمادات الناطقة تذكر لذوي الفضل فضلهم، ناهيك عن مكتبات الجامع الكبير والصغير ودور الكتب والوثائق والمخطوطات في الوطن والعالم أجمع التي مازالت تذكر لمسات يدك الحنونة على صفحاتها الهرمة. لقد نفضت - أستاذنا المؤرخ الكبير- يدك من الدنيا ولم تنفض الدنيا يدها منك، لعلو همتك ودماثة خلقك وحبك للناس والعلم والعلماء ووطنيتك الصادقة وتراثك الضخم، لقد أغمضت عينيك، ولم تغمض الأعين المتلهفة لتراثك أجفانها عن جهودك الكثيرة المتعددة.. إلى الله نفزغ أن يرفعك إلى مراتب اليقين، ويسكنك جنات النعيم.. والحمد لله رب العالمين.

أستاذ التاريخ الإسلامي المساعد- جامعة عدن