دورة النشوء والكمال في الغناء اللحجي

> «الأيام» د.هشام محسن السقاف:

> الدورة الثانية: مدرسة سبيت.. لهيب العاطفة وأوار المعركة.. بهمة عالية يتخطف عبدالله هادي سبيت (1918 -2007م) راية التجديد في الغناء اللحجي بمزايا لا تخرجه، في افتراق صعب، من النمط اللحجي بنكهة القمندان، كما لاتجعله يعيد الكرة في نسخة مشوهة، وتلك -لعمري- همة رجل مقتدر ذي همة عالية كما عبر عنها قائلا

همتك عالية

ماشان بأسك ونوحك

كثرة النوح خذلان

هذه الساقية تروي

زروعك ودوحك

والمطر فوق لحسان

ليه تضجر وتخزن

ربنا بالمطرشن

وانت بالدمع هتان

ليه يازين ماشان

لقد عاش ابن سبيب طفلا لحج القمندان بتجليات غناها الجديد، ومع أنه لايحسب في عداد معاصري القمندان، إلا أنه لم يكن بمنأى عن تلك الأطياف الجميلة لحوطة العبادل في فترة حسنها القشيب، فوالده مربٍ وأديب وشاعر معروف (وابن الوز عوام حتى مع الخلاف حول ذلك في الإبداع علميا) وهو على انطوائيته وشعور العزلة الذي يلازمه كظله لايستطيع أن يقاوم جني الشعر وسحر الفن، فيصده كل الصد أبوه، ويفعل معه كما فعل زهير مع ابنه كعب قبل أن يستقوي عوده، وخوف الاثنين؛ هادي سبيت حنق وزهير بن أبي سلمى، أن تحسب قصائد ابينها لهما وتنسب إليهما

وإذا كان انتصاره لأستاذه وأستاذ الأجيال حسن أفندي شعريا، ضدا على شاعر فحل لا يرحم هو مسرور مبروك في مساجلة بين الشاعرين في مجلس الأمير العبدلي أحمد بن علي مهدي، قد مرت بسلام، فإن تهنئة السلطان عبدالكريم فضل قد أغضبت السلطان ومطلعا:

أبوك فضل ونعم الفضل من ملك
بلينه نال ملكا لا بقوته

ظانا كل الظن أنها تعريض وأنها تخفّت بالابن لتدرأ التهمة عن الأب. وكانت أولاه الجادة هي (القمر كم بايذكرني جبينك ياحبيي) التي غناها أحمد يوسف الزبيدي وهي من ألحان الشاعر في الأربعينات الماضية تأكيد لإصراره على السير على درب أستاذه القمندان بروح وهمة عالية تنبئ بميلاد مبدع له أدواته وملامحه الخاصة، فإن ابن سبيت وبأخلاق الفلاح اللحجي لاينكر تأثره حد البكاء بأغنية القمندان:

ليه الجفاء يا منيتي ليه الجفا
ليلة صفا جد باللقاء ليلة صفا

انته من أهل الجود من أهل الوفاء
أما سواكم في الهوى هوزه وماء

يقول عن هذه الأغنية: كنت أبكي عندما أسمعها من الفنان المرحوم صالح عيسى وهي التي حركت مشاعري وأوحت لي بتأليف وتلحين أغنيتي الأولى (القمر كم بايذكرني) مرجع سابق، ص 52، 53.

لقد طبعت مناخات الحرب العالمية الثانية، والمترتبات عليها، نكبة فلسطين واتساع نطاق الثورة التحررية في العالم والوطن العربي بعد ثورة يوليو 1952م في مصر تحديدا، أن يتجه سبيت ويسخر قدراته الإبداعية الفنية في اتجاهين: الأول عاطفي وجداني بنزوغ تصوفي إيماني مهما بدا ذلك مغايرا أو خارجا في ظواهر الكلم، والثاني سياسي وطني تصنعه إرادة إصلاحية وثورية تقودها إرادة رواد كبار أمثال الداعية الوطني والمصلح الكبير والسياسي المخضرم والمناضل الجسور محمد علي الجفري، ومن المفارقات التي قد لا تتكرر إلا في خصوصيات نادرة أن يكون رأس الحكم سلطان لحج المثقف علي عبدالكريم من هؤلاء الذين يهتدون لفكر الرابطة سبيلا للتغيير، ويواجهون تبعات هذا العمل الوطني بشموخ الأبطال.

لقد كان عبدالله هادي سبيت في الطليعة الوطنية التي جعلت الغناء سلاحا وطنيا مزلزلا ، على غير ما تشهد به سجيته، بل يكاد يكون حزبا كبيرا بمفرده، يتحدى على غير تردد استعمارا غاشما:

قل لذي جانا بسجير

كنه إلا جاب عنتر
جاب عبلة بطاسه

بايقع الله أكبر

بايقع جزارك أعور
بايخشى الفاس راسه

سير ساني لا تعصور

واستني من قبل تقبر
في بواليع النجاسه

وحتى عندما تنازعه العاطفة شعرا وألحانا بنمط المحبة اللحجية فإنك قد تضع يدك أيضا على ذاك الصوت الوطني المندد بالوضع القائم، ففي قصيدة بانجناه يقول:

بانجناه من غصنه واهبوي من حسنه

يشفى القلب من حزنه

بانجنى الذهب الابيض لايدول ولايأرض

عاده لا دول بيض

وسط البودرة تلقاه

والخدين تتلقاه

محلاهم ويامحلاه

إلى أن يقول:

قالوا لنا غيركم جابه يبا يحتل

جابه مثيل الشلل يقضي على كل مفصل

والله والله رب العرش ما نحتل

لا ذا ولا ذا حصل إلا إذا الكل يقتل

في تعريض واضح بالسياسة البريطانية، حيث طبعت الظروف السياسية المرحلة بطابعها الثوري العارم، فجاءت حفلات دعم الثورة في الجزائر التي رعتها رابطة أبناء الجنوب وتألق فيها عبدالله هادي سبيت دون أن يلهيه ذلك عن مشروعه الفني العاطفي، فقد رعى في هذه الفترة (1957م) الصوت المبهر الطفل محمد صالح حمدون، وفجرت أغنية (سألت العين) حدثا غير مسبوق في تفاعل الجمهور معها، فقد (نجحت نجاحا كبيرا إلى درجة أنه بعد تسجيلها في إذاعة عدن - والقول لسبيت- كانت الإذاعة تستقبل طلبات كثيرة للمستمعين الذين يودون سماعها قد يصل أحيانا إلى المائة والخمسين) تاريخ الأغنية، سابق، ص 57.

يقول الأستاذ والفنان الكبير محمد مرشد ناجي في كتابه (أغانينا الشعبية) في سياق حديثه عن الأغاني التراثية وإبراز مميزاتها: إنه إذا قمنا بدراسة هذه الأغاني والتشبع بأنغامها، فلا ضير بعد ذلك أن ننتج لأن ألحاننا ستكون مستمدة من تلك الألحان، حتى ولو كانت ملونة بالفن المصري بحكم تأثرنا به إلى حد بعيد.. إلا أن اللون المحلي -بطبيعة الحال- سيكون أطغى من اللون المصري. وكتعزيز لكلامه استشهد بأغنية (سألت العين) من ألحان سبيت التي عملت -والقول للمرشدي - أكبر ضجة وطار صيتها إلى ما وراء الحدود.. كانت الأغنية مطعمة باللحن المصري إلا أن اللون المحلي فيها صارخ دون شك (خالد صوري، سابق، ص 35) هذه الأغنية نسبت نظما للفنان والشاعر محسن صالح مهدي على غير الحقيقة وقام بتلحينها مع تعديلات في بعض مفرداتها عبدالله هادي سبيت (انظر دراسته هاني جرادة: عبدالله هادي سبيت بين «سألت العين» و«ياباهي الجبين»، مجلة الحسيني العدد 40، يناير- يونيو 2008م، ص 103-120).

وإذا كان الأستاذ عبدالله هادي سبيت قد وجد خياره السياسي في الرابطة- أم الأحزاب والتيارات الوطنية في ذلك الوقت- ودخلت الأغنية الوطنية على يديه وآخرين من رواد تلك المرحلة في معركة التحريض السياسي، بالإضافة إلى الصحافة العدنية ودور الأندية والمسرح في العمل الوطني، فإنه كان حريصا كأستاذه أحمد فضل القمندان على تأسيس فرقة موسيقية تقوم بأعباء العمل الموسيقي وتقديم إبداعات رواد الدورة الثانية من دورات تطور الغناء في لحج، فأسس في العام 1957م ندوة الجنوب الموسيقية من:

1- عبدالله هادي سبيت - رئيسا للندوة وشاعرا وملحنا وعازفا على العود

2- فضل محمد اللحجي - قائدا للندوة وملحنا وعازفا على العود والكمان

3- محسن بن علي منصر - عازفا على العود

4- محسن بن أحمد مهدي - ملحنا وعازفا على العود

5- محمد سعيد الصنعاني- ملحنا وعازفا على العود والكمان

6- محمود محمد جبلي - عازفا على الكمان

7- علي سالم النجار - عازفا على الكمان

8- محمد سرحان- عازفا على الكمان

9- فضل حويس (سنيجار)- عازفا على الناي

10- عبدالله عبده الظاهري- عازفا على الناي

11- حسين محمد حسن ناجي -ضاربا بالإيقاع

12- علي مبروك - ضاربا بالإيقاع

13- علي عياش - ضاربا بالإيقاع

14- صالح نصيب - شاعرا وضاربا بالإيقاع

15- صالح يوسف الزبيدي - مغنيا وضاربا بالرق

16- أحمد يوسف الزبيري - مغنيا وضاربا بالرق

17- حسن عطا - مغنيا

18- محمدصالح حمدون - مغنيا

19- أحمد صالح عيسى - مغنيا

20- مهدي درويش - مغنيا

21- علي مطنوش - كوميديان

22- علي عطيفي = كوميديان

23- أحمدج سعيد الحاج - لاعب أكروبات

24- أحمد سالم الوراد - لاعب أكروبات (كتاب من الغناء اليمني، ص 265)

ومن هذه النخبة المؤتلفة سوف يلحظ المرء أن سبيتا يحمل مشروعه الفني والوطني التحرري بالاعتماد على الأغنية الوطنية في وقت تصاعد فيه صوت المناداة بطرد المستعمرين وتحرير البلاد إلى مدى أوسع، فجاءت الأناشيد الوطنية المعبرة عن حال المواطنين مثل (والله إنه قرب دورك يابن الجنوب)، و(ياشاكي السلاح شوف الفجر لاح)، و(اشرقي يا شمس من أرض العروبة)، و(ألا ليت لي موته على أرض الجزائر) وللشاعر علي عوض مغلس (لله درك يا الجزائر ألف در) و(أخي في الجزائر ياعربي).

إن هذا الشاعر والفنان المتعدد المواهب قد وضع أساسا لمدرسة فنية لحجية جديدة تنهض بأعباء الغناء والطرب اللحجي بعد القمندان بملامحها الذاتية ومذاقها الخاص، تترافد من خلال ما قدمته مع موروث القمندان الثر والغني دون أن تكون هي نسخة مقلدة منه. ولعل عبدالله هادي سبيت قد وجد ضالته، كما وجدها القمندان في وقت سابق، في مناخ ملائم ووجوه إبداعية تستطيع أن تجاري وتعطي وتبدع.

فمن حول سبيت كان الأمراء العبادل الفنانون: محسن بن أحمد مهدي، صالح مهدي بن علي بن أحمد، والأمير عبده عبدالكريم، والنابغة الفنان فضل محمد اللحجي، وصلاح كرد، وصالح نصيب، والأصوات الغنائية المبدعة: أحمد يوسف الزبيدي، صالح الزبيدي، محمد صالح حمدون، عبدالكريم توفيق ، فيصل علوي، مهدي درويش، محمد عوض شاكر، سعودي أحمد صالح وغيرهم، ليشكلوا لوحة رائعة تزدان بها مساحات الفن الغنائي اللحجي وسماواته الممتدة، فكانوا بحق روادا لمرحلة من مراحل الغناء اللحجي الأصيل في دورة اكتماله الثانية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى