الشاعر أحمد الجابري.. يابايعين الصبر !

> «الأيام» أحمد المهندس:

> هو شاعر وفنان من أرض الجنتين (اليمن) ومن أهل عدن الزهراء التي أخرجت عشرات المبدعين والفنانين والشعراء الأفذاذ الذين لازالت أعمالهم تعطر حياتنا بأعذب الكلمات المنغمة.

لم يكتف بموهبته الشعرية المبكرة وبالشهرة التي نالها.. في عصر الثورة الإبداعية والزمن الجميل الذي كان يعرف كيف يحتضن المواهب أمثاله.. ويتيح لهم فرصة البروز والعطاء.

بل اختار الدراسة النظامية ونال فيها أعلى الشهادات الجامعية الاقتصادية في قاهرة المعز على حساب والده .. فقد كانت (مصر) القبلة الأولى لمن يبحثون عن التميز والدراسة والمزيد من التطور.. وحتى يستطيع أن يختار حياته ومستقبله ويساهم في إثراء الوطن بعد التحرير والاستقلال من نير الاستعمار وكان له ما أراد.. ولكن.

تأتي الرياح بما لا تشتهي سفن المبدعين.. فقد أثار ما يكتبه من أشعار وأغانٍ ونبوغه المبكر أعداء النجاح في كل حياة إنسانية.. وحاولوا اتهامه بأكثر من تهمة ووسيلة سهلة وجاهزة كانوا يعرفون كيف يفصلونها على المقاس ولا أجدع (ترزي) والكفيلة بإدخال الأحرار والمبدعين غياهب السجون والمعتقلات.. بل اختفائهم من الحياة اغتيالاً أو إعداماً.. ولم يسلم منهم بالطبع شاعرنا الكبير الأستاذ أحمد الجابري.. ونجا بفضل الله من الإعدام.. وغادر الوطن مجبراً كغيره من الشرفاء وأصحاب القضايا والمناهج الإصلاحية إلى الغربة.. بعد أن بذل الغالي والرخيص من أجل أن ينجو بنفسه.. وقطع البراري والقفار وركب كل ما خلق الله وما اخترعه الإنسان.. ليصل إلى بر الأمان.. وينسى لفترة موهبته الشعرية والتدريس.. باعتباره أيضاً كان في مدينته (عدن) مدرساً للغة العربية والرياضيات في ثانوية الجلاء- أقدم ثانوية في خورمكسر.. التي تحمل الآن اسم الأديب والشاعر الراحل محمد عبده غانم.. وتزامل في التدريس مع رفيق دربه وصديقه الأغر الشاعر المتعدد المواهب لطفي جعفر أمان.. وإن نسيته تلك الأجيال العديدة التي تخرجت على يديه وأصبح لهم شأن ورنة(؟!). ولم يعتمد على مواهبه.. بل عمل محاسباً في أحد بنوك دول الخليج في الغربة..وغرق في هموم الدنيا المنسية والعمل الدؤوب.

ولكن سنوات الغربة لم تستطع أن تنسيه حبه الأول والأخير.. تراب الأرض التي قال فيها سيد البشرية والمرسلين في أحاديثه الشريفة.. بأنها أرض الإيمان والحكمة وأهلها الطيبين.. والماضي البعيد السعيد والنجاح الذي حققه مبكراً بالكلمة الصادقة المعبرة عن آهات الحنين والحب.. فعاد بعد أن تغير الحال بعد أكثر من ربع قرن من عمره الإنساني من الغربة .. إلى مراتع الصبا والجمال... بعد أن غزا الشيب مفرقه.. ليسأل كإيليا أبو ماضي بأسلوب الشاعر.. عن الفتى الذي كان يمرح في أرضها الخضراء وبحرها الصافي كنفوس أهل عدن.. عاد ليمارس عادته القديمة.. نظم (الشعر) من جديد ليقدم معسول النشيد وأغاني لا تنسى على امتداد أجيال وأجيال.

ولم ينس تلك الوقفات الرجولية التي قدمها ووقفها معه رفاق المشوار.. فنانون لهم مكانتهم وشهرتهم.. منهم الكثير من جيل الرواد، كالفنان الكبير محمد مرشد ناجي، أطال الله في عمره.. والموسيقار الرائع أحمد بن أحمد قاسم رحمه الله.. وحتى من جيل شباب الفن الذين برزوا وظهروا أثناء غربته، كالفنان عصام خليدي.. وجمهور بطول وعرض اليمن من جنوبه وشماله قبل وبعد الوحدة.. لازالوا يقدرونه ويعظمون ويرددون أعماله الغنائية والوطنية الرائعة.

ولكن..وآه من هذه الكلمة وما تحمله من نقاط وعلامات تعجب.. هل تعرفون بأن هذا الشاعر المبدع الذي لازال ينزف ويتألم ليس إبداعاً.. فلا يختلف في ذلك اثنان عندما يلمسون ما يكتب ويقدم من كلمات تحال على شفاه وأصوات الفنانين لأنغام وطرب.. بل في الحياة التي لم يتمتع فيها بعد..

فلا زال يعيش الغربة الإنسانية في داخله من أهل الوطن والأقربين.. ولا أقول ظلم ذوي القربى الأشد ألماً وحزناً.

فهل تصدقون ياسادة يا كرام.. بأن شاعراً في قامة أحمد الجابري، قدم لنا عشرات الأغاني إن لم تكن بالمئات على امتداد المشوار الإبداعي والإنساني الطويل.. لا يملك حتى هذه اللحظة سكناً آمناً في بلده وفي مسقط رأسه (عدن) بعد هذه السنوات الطويلة ويسكن ويعيش في منطقة (الراهدة) الحدودية اليمنية بسبب عدم استطاعته تأمين سكن في مسقط رأسه لا يستطيع دفع إيجاره.. وبسبب سهولة المعيشة والتي تتفق مع ظروفه وإمكانياته (وزلطه) على الحدود.. وسبق بذلك غوار الطوشي الممثل السوري المعروف وحدوده ومقهاه الشهير وفيلمه الساخر(؟!).

الشاعر الكبير أحمد الجابري، سليل أكبر الأسر اليمنية العدنية من أبناء التواهي الميناء الأشهر في جزيرة العرب.. والذي كان أبوه رحمه الله يملك فيه أشهر المخابز (الأفران) مخبز الأجرب.. الثري الذي كان يملك أيضاً جزءًا كبيراً من مساكن (الحافة) وفرنه الشهير ملجأ الضعفاء والقادمين من شمال الوطن..الذين كانوا يعملون فيه ويجدون الطعام والتكريم.. بل وأصبح بعض العاملين فيه من الصبية الصغار أيامها.. من كبار رجال الدولة في يمن الوحدة الآن.

بينما أصبح وريثه يسكن الحدود فقراً وعوزة رغم الإبداع والشهادة العليا والخبرة.. هل تصدقون بأن هذا المبدع الإنسان المثقف الذي يحمل بالإضافة إلى موهبته الإبداع الفني الشعري.. أعلى الشهادات من هوليود العرب والثقافة (القاهرة) وجامعتها.. وزامل رئيس وزراء مصر الأسبق الدكتور عاطف صدقي.. وامتدت مساجلاته وحواراته الثقافة في الصحف المصرية مع الأستاذ عباس العقاد.

امتنع من الاستماع إلى نصائح أهل الخير.. الذين طلبوا منه رفع قضايا حقوقية على أبناء عمه الذين نازعوه ميراث والده وأملاكه وتاريخه.. فامتنع ضاحكاً وساخراً من الفكرة وتنفيذها.. فلا يرضيه أن يصل الأمر بين أهل القربى إلى أروقة المحاكم والقضايا.

هل تصدقون بأن من قدم لنا أجمل الروائع الغنائية.. كأغاني (غصب عني، والمي والرملة، ويامركب البندر) للفنان أحمد بن أحمد قاسم رحمه الله.. وللفنان محمد مرشد ناجي أطال الله في عمره :

(على امسيري، وياغارة الله، ويابايعين الصبر، وأخضر جهيش مليان)

وللفنان الراحل المقيم: محمد صالح عزاني: (ياناقش الحنا) التي عادت إليه بنسبها.

وللفنان محمد سعد عبدالله:

(جوال، وأيش استوى)

وللفنان أيوب طارش: (لمن كل هاذي القناديل)

وللدكتور الفنان عبدالرب إدريس، أشهر أغانيه: (دندني) (وصنعاء) وغيرها من الأغاني المعبرة التي لا تحضرني الآن.

وللموسيقار العدني الراحل جميل غانم، وللفنان عبدالباسط العبسي.. ولأسماء كثيرة في سماء الفن اليمني.. العديد من الأشعار والكلمات.. وقدم للحياة الفنية والثقافية اليمنية بعد هذا العمل من الإبداع والعطاء.. ديواناً غنائياً وحيداً رغم أن لديه العشرات من الأشعار والأغاني التي تشكل عشرات الدواوين لتزيد في حياته.. ولكن الظروف وقفت أمام طبعها وإصدارها.

هل تصدقون بأن هذا الفنان الشاعر.. يعيش الجفاف في حياته الإنسانية ولا يملك ما يساعده على الحياة الكريمة وسط الناس.. بدل الاختفاء في البعيد في الحدود كشخص هارب من الأيام والناس (؟!).

هذا الفنان الذي وبعد أن ذاع صيته وشهرته كمؤلف أغانٍ ومبدع والذي لازال البعض من أبناء عدن الأوفياء يذكرونه كمدرس أجيال وكلاعب كرة قدم في أشهر نوادي التواهي وحريف (بالكبة) ولازال بعض من يعرفونه عن قرب يذكرون صاحب أحلى الكلام.. وأجمل الخطوط والعبارات.. الأيسر في الكتابة وبخط وكأنه رسام تشكيلي.. ويذكرون ذلك الشاب الأنيق الذي كان يلبس أحلى الثياب والعطور.. وسلطان زمانه فلم يحرمه أبوه من شيء وشقيقه في الحياة.. وإن لم يطلع من الدنيا كإنسان بعد رحلة السبعين سوى بابن وحيد لايعرفه الكثير من أصدقائه لظروف إنسانية أخرى لا مكان لذكرها الآن وزيادة الهم.. ظروف قال عنها بالكلمة إبداعاً كعادته وكأنه يعيد شريط الذكريات الحزينة:

عيدي شريط الذكريات

خليك في وضعي اللي فات

يوم كنت أنا أشتاق إليك

وأسكب دموعي بين أيديك

وأنت ولا حسك هنا

مش دارية فيبي أنا

أيش بايفيد كلمة عتاب

حسي العذاب حسي الضنا

حسي كما حسيت أنا

وعيدي شريط الذكريات

وهي من الروائع التي تؤكد أن الشاعر أحمد الجابري لازال إبداعه جديداً ومتدفقاً على امتداد عمره ولم ينضب.

هل تصدقون.. أن كل التكريم الذي لقيه هذا الشاعر في حياته حتى الآن.. لا يقاس بما قدم من عطاء أثرى به الحياة الثقافية اليمنية.. بعيداً عن الإقليمية.

فهل يجد ياترى التقدير والثناء قبل أن يسترد الله أمانته.. وتبدأ تراتيل المديح والإطراء في الوقت الذي يكون فيه مبدعنا في غير حاجة إليه، لأنه لن يشعر به كإنسان.

أم أننا كما يردد أستاذنا الراحل المقيم السعودي محمد حسين زيدان (كعرب) نحب الموتى ونقدرهم.

لم يعد في قلمي مداد ليستمر ليتلو الكلام.. فقد قلت كل ما عندي بصدق وموضوعية وإنسانية.. فلا أعرف هذا المبدع شخصياً ولم أتشرف بعد بلقائه..

ولكنها كلمة حق وإنصاف واجب أقولها وأمضي.. وعليكم السلام.

أديب وصحفي سعودي-جدة

عضو هيئة الصحفيين السعوديين

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى