تأملات رمزية في مناسك الحج

> «الأيام» علي بن عبدالله الضمبري:

> منذ أن بوَّأ - يعني هيأ ووطَّأَ وبيَّنَ - رب العزة لإبراهيم الخليل- عليه السلام- مكان البيت الحرام المقدس أمره بقوله: «وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق»، (الحج 27) مازالت قوافل الحجيج تتلاحق وتتتابع ملبية هذا النداء الإبراهيمي بترنيمة قدسية وترتيلة إيمانية تنساب في الزمان لحناً عذباً شجياً ثابتاً على التوحيد لله جل وعلا .. «لبيك اللهم لبيك .. لبيك لاشريك لك لبيك».. من أجل تأكيد السير على طريق التوحيد والمحافظة على أمجاد التاريخ والتعظيم لحرمات الله «ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خيرله عند ربه» (الحج 30) .

ويظل الخليل إبراهيم في طليعة الركب الأنبيائي المهيب فهو أبو الأنبياء وباني المسجد الحرام في مكة والمسجد الأقصى في القدس، وكأنه يؤكد للأجيال الموحدة (توأمة) هذين الحرمين والنهي الحاسم الحازم الجازم عن التفريط بأي منهما فهما كالعينين في الرأس والرئتين للجسد، ولكن «ياليت قومي يعلمون» بما هم فيه من وهن وخذلان ثبط عزائمهم، وأوهن هممهم فلم ينفروا لتحرير المسجد الأقصى، بل خذلوه أسيراً في يد الصهاينة، ولست أدري حينما أسأل : هل سيكون خذلان العرب للكعبة المقدسة أمراً (واقعاً) إذا احتلها التحالف اليهودي النصراني ؟! ..

جعلناكم أمة وسطاً

إن الحج يشكل مؤتمراً إسلامياً سنوياً مستمراً منذ ما يربو على أربعة آلاف عام، كما جاء في كتاب (إبراهيم أبو الأنبياء) للأستاذ عباس محمود العقاد - رحمه الله - ينعقد في أشهر معلومات، بل في أيام معدودات في البيت الذي قال الله فيه: "«إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا» (آل عمران 96).

ويقع هذا البيت في وسط ومركز الكرة الأرضية ليدل على وسطية هذه الأمة واعتدالها واتزانها ووقوعها على السراط المستقيم متجافية عن طريق (المغضوب عليهم) ومجانبة لمنهج (الضالين)، ولذلك جاءت آية «وكذلك جعلناكم أمة وسطاً» (البقرة 43)، التي تتحدث عن (تحويل القبلة) في مركز سورة البقرة ووسطها لتشير إلى أن هذه الأمة المحمدية جعلت الكعبة قبلة للصلاة و«مثابة للناس وأمناً» (البقرة25) واتخذت مكة المكرمة «حرماً آمناً»..

ويعم السلام والأمان والسكينة والخشوع تلك المشاعر المقدسة رغم الحشود الإنسانية المليونية لتتعلم الانتظام في الحركة والدقة في المواعيد والمشاركة الجماعية في الهتاف والمبيت والنفرة والطواف والرمي والسعي من أجل تعزيز روح العمل الجماعي والمشاركة المتفاعلة ونبذ التفرقة والانعزالية لأن الحجاج يخلعون ملابسهم المزخرفة ونياشنهم وتيجانهم وأوسمتهم ورتبهم العسكرية وأسلحتهم وينسون مواقعهم الاجتماعية في مضمون رمزي ملفت يدل على التخلي عن كل شيء يمزق توحيدهم ووحدتهم مستشعرين ومستيقنين أن (الحمد والنعمة والملك) لله لاشريك له فتترسخ في أذهانهم هذه الحقيقة القرآنية «ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد» (فاطر 15).

تأملات رمزية

للقاضي العلامة (ابن بحرق الحضرمي المتوفى 930هـ) كتاب قيم جيد اسمه (الحديقة الأنيقة في شرح العروة الوثيقة) قدم فيه تحليلاً رمزياً عميقاً دقيقاً وتأملاً شفافاً أنيقاً انطلق فيه من قوله: «إن في كل عمل يؤديه الإنسان سراً يتنبه به كل عبد على قد استعداده وصفاء قلبه»، ولهذا اعتبر أن (سر الحج مثال على سفر الآخرة) : فـ«وداع الأهل والأحباب يذكر الحاج بسكرات الموت، ومفارقة الوطن تدل على الخروج من الدنيا وركوب الراحلة للحج تشبه ركوب النعش ولبس ثياب الإحرام تنبه إلى لبس الأكفان ومسافة الطريق من بلد الحاج إلى مكة مثل حياة البرزخ والوصول إلى الميقات كالحشر إلى ميقات القيامة والتلبية تمثل إجابة الداعي بعد البعث». راجع الحديقة الأنيقة صفحة 195 ومابعدها.

وقبل ابن بحرق الحضرمي كان حجة الإسلام أبوحامد الغزالي (ت505هـ) قد كتب (أسرار الحج) وضمنه موسوعته التربوية (إحياء علوم الدين) فقال : «واعلم أنك بالطواف متشبه بالملائكة الحافين حول العرش الطائفين حوله، ولاتظنن أن المقصود هو طواف جسمك بالبيت، بل المقصود هو طواف قلبك بذكر رب البيت حتى لاتبتدئ الذكر إلا منه ولا تختم إلا به، كما تبتدئ الطواف بالبيت وتختم بالبيت، واعلم أن الطواف الشريف هو الطواف بحضرة الربوبية، وأن البيت مثال ظاهر في عالم الملك لتلك الحضرة التي لاترى ولاتشاهد في عالم الملكوت». راجع (إحياء علوم الدين) للغزالي المجلد الأول ج3ص 87 طـبع دار الفكر بيروت.

ومن المعاصرين كان للشيخ سيد سابق -رحمه الله - صاحب (فقه السنة) تعليل طريف وتأمل لطيف فيما يتعلق باستلام (الحجرالأسود) إذ قال: «لايُعلم- على وجه اليقين- أنه بقى حجر من أحجار الكعبة من وضع إبراهيم إلا الحجر الأسود» وساق أحاديث وآثاراً في فضائل تقبيل هذا الحجر الطاهر الشريف، ثم قال : «والمعنى أن من صافحه من الأرض كان له عند الله عهد، فكالعهد الذي تعقده الملوك بالمصافحة لمن تريد موالاته والاختصاص به، وكما يصفق على أيدي الملوك للبيعة، وكذلك تقبيل اليد من الخدم للسادة والكبراء». (راجع (فقه السنة) للسيد سابق) ج1 ص449.

الصفاء والمروة

جاءت مادة (صفا) في (لسان العرب) لابن منظور (توفى 711هـ) لتدل على الصفاء، الذي يضاد الكدر، والصفوة أي: الخلاصة والصفاء الحجر الصلد الضخم ..وأما المروة فهي حجر أبيض رقيق، والمسلم الساعي يجب أن يعمل على تعميم وتعميق موقف (الصفاء) بكل المضامين الثرية الموجبة بالإخلاص لله وحده في كل أمر وشأن، ولكي يكون الحاج صفوة خالصة مخلصة تنقل للأجيال أسوة وقدوة حسنة من خلال اللاءات الثلاث «لا رفث ولافسوق ولاجدال في الحج» (البقرة 197) ليرجع الحاج من حجه صافياً طاهراً نقياً كيوم ولدته أمه، وليضيف رقماً جديداً وعنصراً فاعلاً في قافلة الخيرين الذين خاطبهم الله بقوله : «وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون ياأولي الألباب» (البقرة 197)، يعود الحاج وقد استلهم من معاني (الصفا والمروة) صلابة الموقف فيما يتعلق بثوابت الدين وضوابط الأخلاق المنطلقة من صفاء القلب ونقاء الضمير وشفافية المشاعر، فيبيت وليس في قلبه غل ولاغش ولاحقد ولاحسد ولا بغضاء ولاشحناء لأي مسلم أو مسلمة سعيا نحو تشكيل الصفوة التي تقدم نماذج الاقتداء والاهتداء بسلوك الأنبياء وتعزز سلوكيات (المروة) والصفح الجميل والحلم المتأني، والعفو المتسامح والمحبة الصادقة لله ورسوله وللمؤمنين جميعاً دون تحيز فئوي أو مذهبي أو طائفي.

كما أن السعي بين (الصفا والمروة) يذكرنا بالسيدة (هاجر) عليها السلام التي وعت دورها الرسالي وسعت سبعة أشواط، علمتنا أن الحياة الإيجابية المتفاعلة والمتفائلة إنما هي وعي إيماني رشيد يوجهه وحي رباني سديد، يحققه سقي إنساني مجيد «وأن ليس للإنسان إلا ماسعى وأن سعيه سوف يُرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى وأن إلى ربك المنتهى»(النجم 39- 42). كما نتعلم تقدير وتقديس دور المرأة في حياة الأنبياء وتعظيم مكانتها في نصرة التوحيد «ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب» (الحج 32).

الحج عرفة

قال الزمخشري (توفي 538هـ)في الكشاف 1/348) : «سميت بذلك لأن إبراهيم أبصرها فعرفها وقيل : لأن آدم وحواء تعارفا فيها وقيل : لأن الناس يتعارفون فيها»، وقد تبعه في ذلك (أبو علي الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان) 2/160)، وكذلك الشوكاني (توفي 1250هـ)في فتح القدير 1/203، ويوم عرفة - يوم الحج الأكبر - يعرف ويذكر المسلم بيوم الجمع الأكبر فيعترف بذنوبه ويلح على الله بالدعاء والتوبة فيكرمه الله بالعتق من النار - كما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها.

ومارئي الشيطان أغيظ ولا أحقر من يوم عرفة، إذ يجتمع المسلمون جميعاً تجمعهم الأخوة السائرة على منهاج النبوة، متحابين غير متباغضين مؤتلفين غير مختلفين متقاربين غير متحاربين، وحينما يرى الحق - تبارك اسمه- توحدهم وجمعهم يقول : انظروا ياملائكتي إلى عبادي هؤلاء جاؤوني شعثاً غبراً من كل فج عميق اشهدوا ياملائكتي أني قد غفرت لهم.. وليس شيء أشق ولا أشد على الشيطان من رؤية المسلمين في وئام، فيترصد لهم كل مرصد بعد عودتهم من حجهم ليثير بينهم الخلافات المذهبية والعداوات الحزبية فيكون من استجاب لتسويله وتزيينه أو من استمع لنزغه ونفثه «كالتي نقضت غزلها» عياذا بالله.

والفجر وليالٍ عشر

ليالي عشر ذي الحجة يكون العمل الصالح فيها أحب إلى الله وأعظم ثواباً وأغزر بركة حتى من الجهاد في سبيل الله إلا إذا جاهد المسلم بماله ونفسه، فلم يرجع من ذلك بشيء، كما ثبت وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، لهذا يسن فيها الإكثار من القيام والذكر والأعمال الصالحة جميعها لأنها ليالٍ أقسم بها في قرآنه المجيد .. ويستحب لمن يريد أن يضحي بأضحية أن لايأخذ من شعره ولاأظافره - كالحاج عن نفسه بعد ولادته الجديدة فيحلق وينحر كما يفعل بالمولود الحديث.

وبالنسبة لغير الحاج يسن له (صيام يوم عرفة) فقد صح أنه يكفر ذنوب سنتين ماضية وقادمة.. فما يدل على التفاعل الروحي بين الحاج في عرفة وغير الحجاج في أوطانهم وليتعرض المسكون لنفحات الله في هذه الأيام الطاهرة.

إن التأمل في معنى غائية العبادات وأهدافها ليست نصوصاً تقال فقط، ولا حركات جامدة خامدة تمارس، ولكنها تفكير وتذكير وتفسير يعمل على تقوية الإيمان وتزكية الأخلاق وتربية الضمائر وتنمية المشاعر والتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل وتؤدي إلى تحقيق التوحيد وترقيق العواطف وتدقيق التصويب وتعميق الحب لله وحده ولكل مايحبه الله تعالى..

وختاما .. أرجو ألا تنسوا كاتب هذه السطور من دعائكم المخلص .. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

مدرس بكلية التربية/جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى