في ذكرى فقيد الوطن عمر الجاوي تأملات في مشروعه السياسي

> «الأيام» د.عبدالله عوبل:

>
عمر الجاوي في مراحل مختلفة من حياته ونضاله السياسي
عمر الجاوي في مراحل مختلفة من حياته ونضاله السياسي
في 23 ديسمبر 1997م رحل عن دنيانا الحرية والعمل الوحدوي والديمقراطية، السياسي والأديب والصحفي عمر عبدالله الجاوي، ورغم مرور كل هذه السنين لم يغادر الرجل مخيلتنا، مازال واقفاً بابتسامة ساخرة في وجه الظلم والجور والاستبداد.. مازال هامة شجاعة تتسع لكل الأحلام.

وتكتنز الآمال العظام لوطن أحبه بجنون، مازال يتحدى ويقاوم وليس ما يسنده من سلطان سوى عصا يتوكأ عليها بعد أن انهالت عليه حراب كثيرة من كل حدب وصوب. مازال الرجل يسامر أحلام البسطاء والمحرومين.. ومازالت أنظارهم شاخصة نحو نقطة غائمة في الأفق البعيد علها تشع ذات يوم ويترجل من عليائها عمر أو عمر. مازال عمر حياً فينا.. ومازلنا نفتقده.. كلما سحقت أحلامنا واختفت قناديل ديمقراطيتنا التي انتظرناها ولم تأت، كما قرعت طبول الحرب في صعدة، وكلما طال القتل جمهور الحراك الجنوبي السلمي لمنع الناس حتى من الأنين.

لكن لماذا كل هذا الحزن؟ هل صرنا نجعل من زعمائنا أصناماً نعبدها؟ كلا: هي أولاً: لحظة وفاء واجبة علينا وفيها نبحث عن العبر، وثانياً: حالة الفراغ التي تعيشها ساحة المعارضة.. فقد عادت المعارضة إلى الحالة التي رثاها فيها الأستاذ النعمان: إما مديح للحاكم أو الرجاء في اتقاء شره. في حياته وبعد وفاته كان عمر الجاوي شخصية مثار جدل؛ البعض اعتبره طوباويا ومثالياً والبعض الآخر يصفه باللاعقلاني، وطرف ثالث يرى فيه ثائراً ولكنه لم يكن سياسياً، وهكذا اتهم عمر الجاوي بأنه يريد تحقيق الوحدة بأي ثمن.. وأن كل رسالته في الحياة تتلخص في قيام الوحدة اليمنية ولا شيء غير ذلك.

اليوم بعد أحد عشر عاماً منذ رحيل الأستاذ الجاوي نحن بحاجة إلى مناقشة موضوعية لفكره ومنهجه السياسي.. بعيداً عن العواطف والانفعالات. إنني أرى أن عمر الجاوي رحمه الله سياسي من طراز خاص على عكس كل هذه الأقاويل، وربما كانت شخصيته الجذابة وشفافيته وشجاعته النادرة وعاطفته أيضاً غطت على ملكاته السياسية أو هكذا بدا الأمر.. لذلك لم يقرأ الرجل قراءة حقيقية موضوعية حتى الآن.

في هذا السياق أستأذن القارئ الكريم أن أعيد قراءة نشاط عمر الجاوي في موضوع الوحدة ودولة القانون والنظام، والأدوات التي ابتكرها للوصول إلى غايته، وهي قراءة افتراضية ليست مبنية على معلومات ولكنها استنتاجات من السياق العام لمجرد الأحداث التي كان بطلها أو لاعباً مهماً فيها.

أولاً: لم يكن عمر الجاوي يسعى إلى تحقيق الوحدة اليمنية بأي ثمن ولا بأي دولة كانت، ولكنه كان يتدرج في طرح أهدافه من دون أن يغفل عن الهدف النهائي، وإلا كيف يمكن تفسير أن عمر الجاوي بمجرد التوقيع على دستور دولة الوحدة في 30 نوفمبر 1989م وقبل أن تقام الوحدة فعليا أشهر مع محمد عبده نعمان حزب التجمع الوحدوي اليمني وشعاره الواضح «الديمقراطية.. المساواة وحقوق الإنسان» وهذا يعني أن الرجل في ذهنه صورة محددة للوحدة ولدولة الوحدة قبل كل شيء- فالشعار يدل على مضمون الدولة الجديدة، وبالتالي لم يكن إعلان الوحدة مهماً بحد ذاته.. بل ماهي الدولة التي يجب أن تقام وأي مجتمع نريد؟ وهذا لن يتحقق إلا من خلال حزب سياسي واضحة أهدافه وبرامجه، وهو ما أقدم عليه مباشرة بعد التوقيع على دستور دولة الوحدة.

ثانياً: قناعته بأن مشروع الوحدة يرتكز على النخبة المثقفة:

لم تكن فكرة تأسيس اتحاد موحد للأدباء والكتاب اليمنيين سوى تجسيد لفكرة أعظم، وهي أن مشروع الوحدة ودولتها الديمقراطية سوف تعتمد على النخبة المثقفة باعتبارها الحامل الموضوعي لمشروع تحديث المجتمع ومجابهة القوى التقليدية في ميدان الثقافة ومنظومة القيم، وسيكون التمرد على مجتمع التقليد وهزيمتها في مجال القيم والثقافة. ولم يكن الهم الرئيسي لقيام الاتحاد هو مجرد تكوين إطار مهني، ففي ظروف بلد كاليمن ينتظر من نخبة كهذه أن تقدم الكثير من أجل تجاوز التخلف والقهر والاستبداد. ويمكن قياس هذا على مشاركة عمر الجاوي في صياغة وثائق وأنشطة اتحاد الطلاب اليمنيين الموحد في القاهرة. هل في وثائق هذه الحركة الطلابية ما يوحي بأنها كانت مجرد كياني مهني؟ بالعكس كانت وثائق هذه الحركة هي أول صياغة للأهداف الوطنية المرتبطة بالتحرر والوحدة والدولة.

لقد نجح عمر الجاوي في توحيد الأدباء والكتاب اليمنيين وخاض معارك قاسية من أجل أن يبقى الاتحاد ضمير الوطن والنأي به بعيداً عن سطوة أجهزة النظامين. وفي إطار هذا الهدف الكبير كان الاتحاد أكبر من مجرد إطار مهني واتسع ليتجاوز الأدباء والكتاب إلى استيعاب الجزء المنتج من المتعلمين إن أمكن وأن يتحول الاتحاد إلى قوة ثالثة تحمل هذا المشروع البديل في مواجهة مشروعي النظامين.

إنني أفترض أن سنوات الاتحاد العشرين 1990-1970م كانت محبطة إذ لم يتفهم معظم الأدباء والكتاب مغزى القضية الكبرى التي يجب أن يتحمل الاتحاد شرف تحقيقها.. وقد عجزت المجالس والمكاتب التنفيذية المتلاحقة عن التحول إلى كتل نضالية تدفع بمشروع الوحدة والدولة إلى الأمام وبصورة واضحة وجلية.

يكفي أن نلقي نظرة على مجلة «الحكمة» في هذه الفترة، حيث كان التعبير عن المشروع السياسي للاتحاد يتلخص فقط في افتتاحيات الحكمة التي يكتبها عمر الجاوي وعدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. يتفق الكثيرون مع الجاوي في إصراره على أن تكون الوحدة اليمنية رسالة حياة، لكن جلهم يرفضون مشروعه السياسي للوحدة والدليل على ذلك أن من جاءوا معه من الأدباء والكتاب إلى حزب العمل أو حتى إلى «التجمع» فهم عدد لا يذكر.

لقد كان لابتعاد الاتحاد عن المشروع الوطني نتائج سلبية على الحياة العامة ومن آثاره ما يجري الآن من أزمات بسبب أن النخبة المثقفة ابتعدت عن ميدان الصراع الاجتماعي وتوزعت بعضها على القوى الممسكة بالسلطة في الشطرين وبعد الوحدة، فيما الجزء الآخر آثر السكوت أو الانشغال بلقمة العيش .

لقد كان على الأستاذ عمر أن يبقي على الإطار المهني للاتحاد حتى لا يتفكك فيما لو أصر على مشروعه السياسي، والرجل من عادته أن لا يفرض آراءه، فبقي الاتحاد موحداً فقط على الرغم من أنه كان عابرا للشطرين، كان موحداً فقط، وبالتالي فقد ظل عمر الجاوي ممسكاً بالاتحاد ككيان نقابي من جهة وعارضاً مشروعه السياسي من خلال وجوده على رأس الاتحاد ومجلته المركزية.

وقد يقول قائل إذا كان عمر الجاوي سياسياً أكثر منه نقابياً لماذا لم يشكل لنفسه حزبا سياسيا ؟ الواقع أنه فعل.. لكن السنوات الخمس الأولى من عمر الاتحاد كان الجاوي يظن أن لديه ماهو أعظم من الحزب، وحين خذله البعض عاد إلى الحزبية عبر حزب العمال والفلاحين وحزب العمل.. ثم تأسيس حزب التجمع الوحدوي اليمني في 4يناير 1990م.

ثالثاً: توسيع دائرة القوى الحاملة للمشروع:

في واقع الأمر توصل الأستاذ عمر إلى قناعة بالبحث عن قوى اجتماعية بديلة..خصوصاً وأن الاتحاد ليس بمقدوره أن يكون هذه الكتلة الصلبة في مواجهة نظامي الشطرين المتجهين إلى الوحدة بمشروع سياسي ليسوا هم قواه الاجتماعية المحركة، وهكذا كانت الأداة اللاحقة للجاوي هي تشكيل اتحاد المنظمات الجماهيرية في الشطرين، وقد كان الأخير فاعلاً في أولى محطاته عندما شكل ضغطاً سياسياً فعالاً أثر في بعض قرارات الطرفين، ولكن إلى حين.

رابعاً: لم تكن الوحدة غايته النهائية، فقد كان قطب المعارضة الأكثر تمسكاً بدولة عصرية قائمة على القانون والنظام ودافع عن حقوق المواطنين وكرامتهم، وكان مهتماً بالبناء المؤسسي وإعادة بناء النظام القضائي. كما أنه أيد بقوة نظام الأقاليم في وثيقة العهد والاتفاق. وبعد حرب 1994م المشؤومة قاد بنفسه حملة شرسة ضد النهب والسلب في مدن الجنوب وقاد المظاهرات في حضرموت ضد النفوذ والاستعلاء والاستبداد، وأزعم أن العم عمر لو امتد به العمر إلى الآن لبادر بقيادة الحراك السلمي، ولكنني لا أتصور أن يذهب باتجاه أي حل إلا إذا كان في الإطار الوطني الشامل.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى