الأدب الإيطالي:فيما بين أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثاني عشر

> محمد الحسيني:

> روما(موندار) لم يقدر الشيوع والتعميم لفلسفة «امبتستافيكو» التعبيرية - إذ ظل الرجل وآراؤه خاملا بين معاصريه - إنما كانت الغلبة لمجمع «اركاديا» ولقواعده في الشعر والأدب القائمة على الذوق السليم والنزعة العقلية، ونفوذ التربية إلى الفن، واللذة، والتمسك بالتقاليد الثلاثة (الوضوح، والبساطة، والتناسق) في الأسلوب، طبعت هذه المدرسة العقول والأذواق بطابعها، فظهرت كتيبة الاتباعية الجديدة، في أوائل القرن الثامن عشر وهي تحمل هذه الخصائص والشخصيات الأدبية.

في أكتوبرعام 1690م قرر فريق من الأدباء والنقاد والباحثين تأسيس مجمع جديد أطلقوا عليه اسم (اركاديا) وكانوا قبل ذلك يجتمعون في قصر ملكة السويد السابق (كريستينا) بروما يتساجلون الآراء والأشعار والنثر.

وكانت روما حافلة حينذاك بالمجامع، ولكن مجمع «اركاديا» كان يتميز عليها ببرنامجه الواضح للمعالم وقواعده وآرائه الجديدة وتلخص- كما قال أقطاب هذّ المدرسه - في تقويم الأذواق، وبث ورسوخ معاني الشعر الإيطالي الرائعة الجزلة التي أضحت نهباً لبربرية القرن الأخير، ومن وراء واساطين هذا المجمع «حرافينا» الذي سبق أن أسلفنا عليه القول.

أخذ مجمع «اركاديا» يعظم ويتسع رويداً رويدا حتى أصبح أهم المجامع الأدبية الإيطالية، والكتاب ينضمون إليه حتى أضحى موئل أعلام الأدب والشعر والنقد واللغة في القرن السابع عشر بلا تمييز أو تفضيل في النزعات والأفكار والاتجاهات. والحق أن وظيفة وأهمية هذا المجمع في تاريخ الأدب الإيطالي اقتصرت على توليد الحوافز وتعيين الاتجاهات للذوق الشعري في بادئ الأمر، فما أن انقضى النصف الأول من القرن السابع عشر حتى أخذت مهمته في التدهور والنفاذ وانبعثت طلائع المجددين تتناوله بالسخرية والتهكم، وتنصرف في دعوته.. فما هو المثل الأعلى الذي كان يدعو إليه مجمع «اركاديا».

وكان يدعو للعودة إلى الطبيعة والبساطة، والعزوف عن البهرج والمبالغات والزيف في الأسلوب والتخيل والشعور، والمقصود بالعودة إلى الطبيعة حذو أساليب القدماء التي كان المجمع يعدها أرفع نماذج الأدب وأبلغها، وإذا كان القدامى - في رأيه - أقرب إلى الطبيعة فلا عجب أن تجد المجمع اسماً له «اركاديا» وهوإقليم في اليونان عرف بروعة مشاهده الطبيعة، فكان مهبط وحي للشعراء، ومنزل إلهامهم، ومرتع رعاتهم ، حتى لقد كان يطلق على كل عضو من أعضائه اسم «الراعي» وانتشرت فروعه في مدن إيطالية عديدة. وكانت له طقوس وتقاليد يؤخذ بها الأعضاء ويلزمون باتباعها، وكان هيامهم بالشعردلالة على النبل والشرف ورغبة روحية في الفرار من عالم الواقع المرير إلى عالم الأحلام والأحاسيس الرقيقة والخواطر الصافية، وإرادة واعية للتمسك بتقاليد السلف في الصيغ والنزعات الأدبية مع تحفيفها وانعاشها بمزاج من لذة (ابيقور) وطرف من الرقة والعذوبة والخيالات التي يمسك العقل بزمامها ويردع حاجبها.

مامن شك في أن أثر كتاب (مجمع اركاديا)كان بالغاً سواء في صيغ الشعر وقوالبه وردها إلى أصولها التقليدية أم في الملاحم والمآسي والفاجعات والهزليات، فأشاعوا فيها جميعاً روحاً من النعومة والرقة والعذوبة والتوريات والطرافة والطرف والترنيم والترتيل، وكانت هذه الصفات أو المواهب في الأدب من شارات وطباع المجتمع وسمات الحياة والطبقات الأنيقة الرشيقة في القرن السابع عشر. ولقد كان المؤرخون يحكمون حكماً سلبياً على أدب (اركاديا) وهو حكم يدعو إلى الإنصاف إلى تصحيحه نوعاً ما.. حقاًَ إن هذه المدرسة لم تخرج شاعراً من فحول الشعراء الذين لهم شأن وعبقرية، إلا أن كثرة الشعراء المنضوين إليها قد عرفوا ببروز الشخصية وسلامة الذوق والرشاقة والعذوبة مع حسن السليقة والسهولة في التعبير.

ويبدو ذلك جلياً في شعر (باريني)، أضف إلى ذلك أن ( مجمع اركاديا) قد صان القيم الشعرية والتراث الأدبي للقرنين الخامس عشر والسادس عشر، بأن حمل الأدباء الناشئين على اتباعها، داعيا إليها بالنقد والجدل والدرس والتمرس عليها، مقوماً الأذواق بالانصراف عن المبالغات والزخرف اللفظي والخيالات الجامحة والحذلقة اللغوية.. وإليه يعود الفضل في الإبقاء على شعلة الشعر متوهجة في عهد طغيان العلم والفلسفة والمناهج العقلية والتجربة، ثم أسلم هذا التراث كاملاً إلى إعدام الكتاب في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر.. ولولاه لانقطع التيار وخمدت الشعلة الشعرية، وتبدد تراث عصر النهضهة (الرينسانس).

فلو لم يكن مجمع «اركاديا» لكان الأدب والشعر الإيطالي في حاجة إلى مجمع «اركاديا».

العدد 134 في 11 يناير 1959م

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى