غنت له نور الهدى ونجاة والمرشدي :غزليات أحمد السقاف

> «الأيام» د. هشام محسن السقاف:

> من كتاب (القابض على جمر الإبداع) 1 للأستاذ أحمد بكري عصلة الذي أجمل فيه نتاج قريحة الشاعر الكبير أحمد السقاف قرابة ستين عاماً من الإبداع الأصيل، نقتنص هذه الكلمات من غزليات السقاف التي ترقص الإنسان والجان معاً.

يقول عصلة:(إذا ضممنا شعر السقاف في المرأة، ومقدماته الغزلة وشعره في قصص الحب، إلى غزله المفرد، وهو قليل، حصلنا على كم في الغزل معقول، يمكن أن يكون اتجاهاً ينطوي على حس صادق، وقدرة وتمكن، وجل شعره هنا يرجع إلى أيام الشباب، والفتوة، والصبا، إذ كان لابد لروحه الفتية من أن تلتقط الجمال وتعبر عنه، فما خلق المرء من «صخر» كما يقول المتنبي 2، وحين تحدث السقاف عن كتابه «الأديرة» 3 قال: لابد للمرء من محطة يأنس إليها، ويستريح معها من عناء الحديث القومي، فالإنسان كذلك من لحم ودم).

وما دام الأستاذ عصلة قد ذكر المقدمات الغزلية في شعر السقاف ضمن ضرب الغزل في ديوانه، فلطالما استرعتني المقدمة الغزلية المطربة في قصيدته العصماء «بنت بغداد» التي ألقاها عام 1965م في مؤتمر الأدباء ومهرجان الشعر في بغداد بحضور الرئيس العراقي عبدالسلام عارف وفيها يقول:

عصف الهوى بحصافتي ووقاري

فكشفت بعد تكتمي أسراري

بأبي التي ملكت عليَّ مشاعري

بجمالها ودلالها السحارِ

الكاعب المكسال ترفل في السنى

وتضوع عن أرجٍ لها فوارِ

سارقتها النظر الخجول فسددتْ

سهماً فكنت كلاعب بالنارِ

فإذا الفؤاد صريعها ولطالما

صرعتْ خليَّ القوم ذات سوارِ

والمرء إن لقي الغرام مبكراً

لقي العذاب وعاش رهن إسارِ

ما أنس لا أنس «المعظم» زاخراً

بالغيد، والأمواه، والأزهارِ

يجلو الهموم عن القلوب بحسنه

فيزيد في حسن وفي أعمارِ

وله مع الأصال أجمل منظر

بظهور أسراب من الأقمارِ

يخرجن للشط الرحيب لنزهة

وكأنهن حمائم وقماري

لكن في ألحاظهن بواتراً

فحذار من نظراتهن حذارِ( 4)

ولا نجد في غزل المطالع هوى للطلليات أو سيراً على نهج الجاهليين، فالتجديد بيّن جلي في مطالع السقاف يخدم مبناه وغرضه، وعنه يقول عصله (.. أما غزل المطالع فإنه لا يعني السير على نهج الجاهليين في الغزل والنسيب والوقوف على الأطلال، فهو لم يفعل ذلك البتة، ولكنه اتخذ أسلوباً رمزياً هو التغزل بالمدائن العربية التي كان يدعى لها، متفوقاً على الشعراء القدماء بتجديد الموضوع، ولئن كان النسيب قديماً غير واقعي فإن في مطالع السقاف الكثير من الواقع)5 ولا أجد حضوراً مكثفاً للمدينة العربية، والتغني بالمكان وإحيائه في الوجدان العربي، واستحضار تأريخيته في الحاضر العربي، كالذي نجده في شعر السقاف من فلسطين بمدنها المختلفة إلى الكويت وعمان والخليج العربي والسعودية وصنعاء وعدن وحجة وسبأ وحمير إلى القاهرة ودمشق ولبنان (بيروت وقانا والجنوب) ومن بغداد وسامراء وأم الرصاص حتى تونس وليبيا والجزائر والمغرب، وهذه المدن والأماكن المضمخة بحس عروبي صادق يستحضرها الشاعر السقاف ضمن ناشئة تكوينية تجمع بين الغزل والتغني بالمآثر والتاريخ وتدعو إلى التثوير والخروج من رداءة الواقع العربي، يقول الأستاذ محمد حسن عبدالله: (ما اختص به السقاف من بين شعراء جيله، في بيئته، هو اتساع نظرته لتشمل كل أقطار الوطن العربي، وهذه عناوين بعض قصائده المختارة: في مهرجان تونس، دمشق، بنت بغداد، إيه بغداد والأحاديث شتى، عمان والخليج العربي، تحية الكويت لمصر،.. إلخ، فهذا الديوان الشامل لإنتاج السقاف (صدر عام 1988م) قد انطوى على قصائد تحمل من أسماء الأقطار والمدن العربية ما يعد ظاهرة فريدة في الشعر العربي الحديث، وهذه القصائد جسب ترتيبها في الديوان: بنت الأصول (بغداد) ص 27، أم الرصاص (العراق) ص 47، بغداد ص 60، حجة (اليمن) ص 77، الكويت ص 79، صنعاء (اليمن) ص 107، لله بغداد ص 118 ، عرين العروبة (المغرب) ص 137، أول سبتمبر (ليبيا) ص 154، الجزائر ص 185، تونس ص 198 ، دمشق ص 216، أيه بغداد ص228، عمان والخليج العربي ص 263 ، فلسطين ص 268، بنت بغداد ص 296، قبلة إلى أوراس (الجزائر) ص317، اقتلوهم (الجزائر) ص324، بورسعيد (مصر) ص 340 ، إلى جبل أوراس (الجزائر) ص344، لمصر ص 377، آثار سامراء (العراق) 448.. هذه اثنتان وعشرون قصيدة، نسبتها إلى جملة قصائد الديوان ، وقد بلغت اثنتين وسبعين قصيدة - تتجاوز الثلاثين في المائة (%30.5)وهذه درجة من الاهتمام لم يبلغها - في ما نعرف - شاعر آخر، ومن حق الشاعر أحمد السقاف أن يعد بجدارة شاعر المدن العربية، ومن ثم شاعر العروبة بحق)6.

إنني لألمح - الآن - بتجلٍ ووضوح مقدرة السقاف الشعرية في جعل المكان حاضراً في مشهده الغزلي دون تعسف، حتى لنصاب بالحيرة من كيفية حضور (الكنيسة والحرم) في لقائه بالحبيب في خاتمة رائعته الغزلية المغناة (اللقاء العظيم)7.

فلم ترض إلا أن يكون لقاؤنا

غداة غدٍ بين الكنيسة والحرم

وهذه القصيدة إحدى روائع السقاف وهو في ربيع العمر (1955م) وقد قام بتلحينها وغنَّاها الفنان القدير محمد مرشد ناجي وتقول بعض أبياتها:

لك الله من قلب يمزقه الألم

ويانفس صبراً إن ألم بك السقم

ينام خليُّ القوم ملء جفونه

ونوم ذوي الشوق المبرح كالعدم

تعلقتها عن غير قصد فأصبحت

خيالي وأفكاري التي تلهم القلم

فوالله لو مرت بشيخ معمر

عظيم التقى يوماً لحل به لمم

وراح يجيل الطرف في كل فاتن

وأنكر أعوام التهجد وانهزم

لها طلعة لن يلمح المرء مثلها

وإن طاف في دنيا العروبة والعجم

تناسقت الأعضاء فيها وإنها

لتمثال فنان ولوحة من رسم

ويطربني منها حديث مهذب

رقيق المعاني رائع الجرس والنغم

وإن ضحكت هزت قلوباً وأنعشت

نفوساً وألوت بالكآبة والسأم

وإن ضمها في ساعة الأنس مجلس

فإن جميع الحاضرين لها خدم

نظرت إليها نظرة جانبية

فأغضت حياءً وهي تعلم ما أكتتم

وقد سرني أني أثرت اهتمامها

وأن الهوى قد ثار في القلب واحتدم

وفي ليلة سدت طريقي كأنها

عمود ضياء شق ما ساد من عتم

فأطرقت والقلب المتيم خافق

إلى رشفة ترويه من شفة وفم

لقد صاغ المرشدي الكبير لحن هذه القصيدة بمقدرة الصائغ الماهر، بعد أن عكف عليها أياماً طويلة، فخرجت بهذه الحلة اللحنية القشيبة، وتصبح الأغنية واحدة من أجمل ما أبدع المرشدي بتكاملات الشعر الجميل واللحن الرائع والأداء المتميز.

إن هذه القصيدة: (حكاية عشق على النمط العمري - نسبة إلى عمر بن أبي ربيعة - فيها انفعالات حية، وتطلعات ماكرة، وعواطف تحاول اصطياد عواطف أخرى، وفيها أيضاً ولا يليق فنياً وذوقاً أن نغفل هذا - التزام بأصول العشق عند العرب، في وصف الجمال الأنثوي، وفي جعل المرأة مطلوبة والرجل طالب لها، وفي استحباب الظلم منها، لأنه رمز عفتها وبعدها عن التهالك: ولكنها تمضي إلى غاية أبعد من كل هذا، ماذا نكتشف في البيت الأخير، وليس قبله، أن المعشوقة التي إذا حضرت، فالجميع لها خدم هي العروبة ذاتها.. إذ لا يجمع بين الكنيسة والحرم غير العروبة)8. لقد حمل أحمد السقاف أمانة العمل القومي العربي المنزه من الحزبية والشوفينية، على مدى زمني يتجاوز الستين عاماً، وعلى امتداد مسيرته الحياتية من جنوب الجزيرة إلى شمالها، كان الشعر إحدى وسائطه المعبرة والصادقة لترجمة مشاعر وطموحات ونضالات أمته العربية، فهو في قضايا الأمة الشاعر الثائر والخطيب المفوه الذي يعتلي المنابر للتعبير عن طموحات وقضايا وحقوق العرب، شاحذاً للهمم وباعثاً للأمال، لاتكسره الأزمات أو تفقده إيمانه الراسخ بالمبادئ القومية التي آمن وعمل وجاهد من أجلها.وفي ذلك الخضم العظيم، ومن لجج شاعريته المتقدة الهادفة، يتزين بحر شعره بلألأة مضيئة من غزليات متناثرة بين اللجة واللجة، كهذه القصيدة التي قالها السقاف في باكر حياته: عام 1943 وغنتها الفنانة نور الهدى، وهي بعنوان (يا ظالمي):

لا تلمني إن تضرعت إليك

فأنا يا ظالمي - طوع يديك

بأبي أنت أغثني إنني

جئت أشكو موجعاً من مقلتيك

جرح القلب بسهميك وقد

سره أن الدواء في شفتيك

خل عنك الوهم فالحب الذي

ذاد عن عيني الكرى بادٍ عليك

نعس الطرف وكم شاهدته

يقظاً يحرمني من وجنتيك

وعلى خديك لوعات الهوى

كلها قد سقتها مني إليك

بدا شعرُك في فتنته

قلقاً مضطرباً من كتفيك

ودليل غير هذا أنني

قد وجدت السحر مسحوراً لديك

فدع الأعذار وارحم مدنفاً

مل ما رددته عن والديك

ذاق من حبك ما أنحله

وأتى بالروح يفدي ناظريك

وعن هذه القصيدة المغناة يقول د. عبدالعزيز المقالح: (هذه القصيدة بديعة في غنائيتها وصورها وشفافية معانيها، وفي أسلوب تعبيرها الخالي من النمطية البيتية، وهي من أوائل ما كتبه الشاعر، وهي تشف عن شاعر لا تنقصه الموهبة، ولا الخبرة بالكتابة الشعرية، وهي بعنوان «يا ظالمي» وقد جاءت مرفقة بإشارة تقول:«غنتها نور الهدى في مطلع 1943، وهذه الإشارة تعني الكثير لمن يعرف الفنانة الكبيرة نور الهدى، وما كان لها من مقام رفيع في عالم الفن الجميل أربعينيات القرن المنصرم وخمسينياته)9. وفي العام 1961م جاءت قصيدته «الحكاية وهم» وهي غزلية بجدارة تدحض ما توصل إليه باحث أن «اللقاء العظيم» هي آخر قريضه الغزلي. وأتذكر - الآن- أن «الحكاية وهم» قد نشرت في مجلة «البيان» لسان حال رابطة الأدباء في الكويت في العدد المكرس للاحتفاء بالشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري بمناسبة زيارته للكويت عام 1979م، وتقول أبيات القصيدة:

ليس لي بالذي تقولين علم

لا وعينيك فالحكاية وهم

نشر الحاسدون هذي الأقاويل

وياليتهم مدى العمر بكم

أنت مازلت في فؤادي تقيمين

وتصديقك الإشاعات ظلم

هل يفيد الهروب من أسر عينيك

وفي كل نظرة منك سهم

علم الله كم أعاني من البعد

وكم شفني من الوجد سقم

لم أجد كلما اتصلت جواباً

بدل البيت أم تغير رقم

إن تظني أن الصدود كفيل

بتناسي الهوى فظنك إثم

كل يوم تؤججين اشتياقي

حين يزهو حسن ولبس وجسم

بعض هذا الجمال يسلب عقلي

كيف إن زانه ذكاء وفهم

فأرحمي القلب فالحياة فراغ

ليس فيها بعد ابتعادك طعم

وفي العام 1960م نظم الشاعر قصيدته «أعد الحقيبة» التي غنتها الفنانة العربية الكبيرة نجاة الصغيرة، كما يبين ذلك الهامش الذي ذيلت به القصيدة وجاءت على لسان الحبيبة، تقول:

أعد الحقيبة ثم ابتسم

وأسكر روحي بحلو النغم

وقال: طربت إلى سفرة

أزور بها مصر أم الهرم

فقلت له ما أمر الفراق

ولكن متى شئت يحلو الألم

وودعته في المطار ودمعي

يريد التدفق لولا الشمم

وطار فطار فؤادي عليه

وعدت أجرر مني القدم

وحاولت أكتم حزني ولكن

فشلت ولم يبق لي ما اكتتم

وكم من ليالٍ سهرت أناجي

له صورة دونها بدر تم

أقول له: أنني في عذاب

ومن فرط حبي له لم أنم

وأني أعيش بسجن صغير

وجسمي من غير روح ودم

وأن الذي كنت ألقاه حلواً

تغير في ناظري واصطدم

فما نزهتي غير تضييع وقت

وما وحدتي غير تجميع هم

ولما أتاني منه جواب

يؤكد لي شوقه بالقسم

ويعرب عن عودة في القريب

ويكشف عن حبه والندم

مسحت جراحي وقلت يعيش

هوىًّ بيننا موغل في القدم

ويظل الغزل الرفيع في شعر أحمد السقاف الوجه الآخر لشاعرية رجل يحمل العربية كلغة والعرب كأمة والقومية كوسيلة سامية للتضامن والتلاحم مكونات أساسية لمشروع عربي كبير، يذكرنا برجالات من ذات الصنف كان ابن الكوفة الحمراء (أحمد المتنبي) واحد منهم، ويتفرد الأستاذ الأديب والشاعر أحمد السقاف بتلك الخاصية وتلك السمات، ويحلق بشعره تعبيراً عن صدق قناعاته السياسية والوجدانية والفكرية في مضمار العمل العروبي والقومي النزيه.

1) أحمد بكري عصلة، أحمد السقاف، القابض على جمر الإبداع،الكويت، 2008م.

2) لعله يشير إلى بيت المتنبي: مالي أصخرة أنا لا تحركني هذي المدام ولا هذي الأغاريد

3) كتاب «الأوراق.. في الديارات النصرانية» للأستاذ أحمد السقاف.

4) شعر أحمد السقاف، ديوان.

5) الجريدة، العدد 289، الأربعاء 30 أبريل 2008م ص 25 من محاضرة نظمتها كلية التربية الأساسية بجامعة الكويت.

6) كتاب: أحمد السقاف: شخصية مهرجان القرين الثقافي الرابع عشر، ديسمبر 2007م شهادة د. محمد حسن عبدالله:(الأنهار تجري إلى البحر.. في محبة أحمد السقاف) ص 35-17.

7) ديوان: شعر أحمد السقاف ص 364.

8) د. محمد حسن عبدالله، المرجع السابق ص 28.

9) كتاب: أحمد السقاف.. شخصية مهرجان القرين الثقافي الرابع عشر ص 53.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى