الغش في المدارس .. من الظاهرة إلى الجريمة

> د.عبدالله عوبل:

> بادئ ذي بدء أود التصريح بأننا أمام جريمة غريبة من الغش في النظام التعليمي اليمني ,لم يعرفها العالم ولا المنطقة العربية.

نحن نعلم عن الغش انه النقل أي اقتناص الإجابة لطالب من خلال النظر إلى حلول زميله, ثم ارتقى فيما بعد إلى ما يسمى (الروشتا) أي ورقة صغيرة يتم إخفاءها ويصعب على المراقب رؤيتها ومع ذلك يمكن اكتشافها, أو تلقين الطالب الحل من طلاب آخرين خارج قاعة الامتحانات. هذه أشكال قديمة وحديثة كثيرة من الغش مقدور عليها ويمكن لضمير المراقبين أن يتغلب عليها.

إن تحول الغش من حالات فردية إلى ظاهرة يعني أن هذا السلوك الانحرافي قد أصبح نمطا جماعيا على مستوى المدارس والطلاب, ومع ذلك تبقى الظاهرة في إطار يمكن معالجته، لكن ما نتحدث عنه اليوم هنا يمكن أن يطلق عليه جريمة، مرتكبيها ليسوا الطلاب بل المجتمع.

يجري الحديث هنا عن (1 ) كشف الأسئلة واستخدام العنف أحيانا تجاه لجان الامتحانات (الثانوية أو المرحلة الأساسية) وبمشاركة من قبل المجتمع المحلي وسلطات شبه رسمية وإدارات مدرسية ومدرسين وربما جهات أمنية. ( 2) حضور بنات مبرقعات يمتحن بالإنابة عن خواتهن أو أقاربهن ( 3) ضغوطات وتهديدات من الأهالي ضد المراقبين لإثنائهم عن أداء واجبهم والتواطؤ مع الطلاب في سلوك الغش.

هذه الظاهرة - الجريمة لم نسمع بها في أي من المجتمعات القديمة أو المعاصرة، وهي جريمة لأنها تدخل مباشر من قبل المجتمع لإفساد أخلاق الطلاب من ناحية ومن ناحية أخرى فهي تدمر أي أفق لاكتساب المعرفة والعلم وتحرم المجتمع من بناء قدراته ومهاراته وتقضي على رأس ماله البشري.

توصيف ظاهرة الغش المدرسي

الغش سلوك انحرافي, من حيث هو خرق لقواعد السلوك والقيم التي تتبادلها الجماعة البشرية. والغش يضر بمصالح هذه الجماعة ويفسد أخلاق الغشاش ويدمر مستقبله ويسقطه من حساب الجماعة. ولا يعود الفرد عضوا طبيعيا في جماعته إلا إذا تخلص عن هذا السلوك القبيح. وللجماعة طريقتها في معالجة السلوك الانحرافي من خلال نظام الحوافز والعقوبات.

والغش كسلوك انحرافي ليس جديدا, بل هو قديم قدم الإنسان نفسه وضمن صراع ثنائيات الخير والشر، لذلك فقد حرمته الأديان السماوية والقوانين الوضعية ورصدت له عقوبات في السماء كما رصدت له عقوبات في الأرض. وتكمن خطورة الغش أن له أضرارا مادية مباشرة على مصالح الآخرين وحقوقهم وحياتهم. وأضرار أخلاقية لأنه خروج على قيم المجتمع وأضرار تتعلق بتدمير الذات الإنسانية واحتقار قدراتها على الإبداع والاختراع والمنافسة. فمن الغش في مواد البناء الذي يمكن أن تكون نتيجته انهيار عمارة على رؤوس سكانها, إلى الغش في الامتحانات الذي يدمر قدرة الطالب في السعي إلى المعرفة وحرمان المجتمع من طاقته الإبداعية والمنتجة وجميع المعارف والتكنولوجيا التي يحتاجها للتنمية.. فتتوقف التنمية ويسقط المجتمع في براثن الفقر والأمية والجهل والتخلف.

لا أحد يعلم متى تسرب الغش من المجتمع إلى النظام التعليمي بحكم العلاقة بين المجتمع والمدرسة، غير أن النظام التعليمي يكون بناؤها من القوة ما يسمح بتحصينها من تسرب الظواهر السلبية من المجتمع إلى المدرسة, وعندما يكون بناء النظام التعليمي هشا يسهل اختراقه، لذلك فإن الاستنتاج الأول في هذا الميدان هو وجود استجابات داخلية في النظام التعليمي يسمح بتزايد حالات الغش.. أما تدخل المجتمع قسرا لفرض الظاهرة المخلة بقيمه فتلك جريمة بشعة تعبر عن قابلية المجتمع للفساد مع قلة تأثير الوازع الديني وعدم قدرة رجال الدين والمجتمع المتدين على خلق النموذج الأخلاقي.. كما لم تقدم المواطنة الحقة نفسها كنموذج للمواطن الصالح .. وفشل الحكومة والطبقة السياسية في تبني قيم إيجابية وممارستها على أرض الواقع. بالعكس يكتشف الأطفال أن المجتمع يكذب عليهم: أنهم يكتشفون الهوة بين الأقوال والأفعال..إن المجتمع كله يغش ويكذب, هكذا يشاهدون في التلفزيون خطابا يجعل من البحر طحينا ويرون الواقع مختلفا، هكذا حالهم مع الباعة في السوق يغشون، وفي البيت يكذب الوالدان كل على الآخر. وهكذا.

ومع أن بلدان العالم لا تشكو من هذه الظاهرة باستثناء منطقتنا العربية, فإن صعوبة الخوض في تحليل الظاهرة تكمن في ضآلة أو انعدام البحوث والدراسات في ظاهرة الغش, خصوصا من وجهة نظر علم الاجتماع التربوي، لذلك فإنني أجازف مستعينا بوضوح الظاهرة وامتداداتها والمسار الذي اتخذته لنفسها فاتحا الباب لمزيد من البحث في المستقبل.

خلفية سريعة

يعلم كبار السن ومعاصرو النظام التعليمي في الجنوب على الأقل فترة الأربعينيات حتى بداية السبعينيات من القرن العشرين أن الغش بمفهومه القديم لم يكن ليتشكل كظاهرة, أي أن الغش كحالة وجد, ولكنه لم يتحول إلى سلوك جماعي على مستوى المراحل والمدارس ولدى جماعات كبرى من الطلاب.

ويكمن السبب في رأيي في النظم التعليمية في كل من مصر والسودان، حيث كانت المناهج التعليمية مستمدة من هناك. ويشهد على قوة النظام التعليمي في مصر والسودان كانوا كبار العلماء والمفكرين والأدباء, وقد كان آخرون خريجي هذا النظام في الستينيات من القرن العشرين هم ختام عصر المفكرين والعلماء والأدباء والساسة والمثقفين منهم أحمد زويل وقائمة عريضة في مصر والطيب صالح وقائمة عريضة في السودان.

لقد تواءمت مناهج تلك الفترة وتلازمت مع عصر انتشار التعليم الإنساني وفق النظرة الفرنسية الذي ساد العالم حتى الستينيات من القرن العشرين.

كان المنهج قويا ومرنا خاليا من الحشو, ومن الايدولوجيا والشعارات الجوفاء, خاليا من حفظ النصوص الطويلة ومن لكل فصل كتاب عريض طويل. كان المنهج بسيطا ممتنعا, خال من التعقيد , مرنا يسمح للطالب بالاهتمام بمهارات أخرى يسمح بالأنشطة العملية اللاصفية يربط الطالب المدرسة ويحفز على المنافسة والتحصيل.مثلا: كان الطالب في الصف الثالث الابتدائي يتعرف على طه حسين ومي زيادة وتوفيق زيادة وتوفيق الحكيم عبر نصوص لا تزيد كل منها عشر فقرات قصيرة جدا. كانت المناهج تعطي الوقت الأكبر للقراءة والكتابة, لذلك كان الطالب يجيد القراءة والكتابة عند نهاية الصف الثاني الابتدائي. كنا نقرأ لآبائنا في سهراتهم في رمضان قصص شهرزاد وأبو زيد الهلالي والزير سالم.

كان المعلم هو الآخر في مستوى المنهج, أكثر مقدرة على فهم المنهج، وعلى صعيد المجتمع كان المعلم يحتل مكانة عالية في السلم الاجتماعي . فهو يقع في وسط الطبقة الوسطى أي مع كبار الموظفين الحكوميين وموظفي الشركات والمصارف والخبراء والفنيين. وهذه الطبقة الوسطى تتوسط طبقتي الأغنياء والفقراء . وبالتالي فان المعلم كان يحظى باحترام المجتمع ويحتل موقعا يحتم عليه أن يقود حركة المجتمع.. فالطبقة الوسطى هي التي تصنع الوعي والإبداع والثقافة وتحافظ على توازن المجتمع

هذا الموقع الذي يسمى المكانة «STATUS» هو الذي يحدد دور الفرد الاجتماعي. لذلك كان هذا محفزا للمعلم أن يؤدي دوره التربوي بالإضافة إلى أدواره السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى، أما اليوم فإن الاستقطاب الاجتماعي بين الفقراء والأغنياء يدفع بالمعلم بأن يصبح في قاع المجتمع ويشعر بأن المجتمع لم يعد يقدر عمله ودوره الاجتماعي.

كان المنهاج يجمع بين النظري والعملي ويسمح للطالب بالحصول على معارف متنوعة: ندوات الخميس الأسبوعية وهي عبارة عن معلومات عامة تتناسب مع عمر الطلاب, ومساجلات شعرية . ومعلومات في الأدب. يترك الطلاب يعدون لها طوال الأسبوع ويديرون حواراتهم ويتناقشون بينهم دون تدخل, إلا إذا اقتضى الأمر ذلك, ويكتفي المعلم بدور المراقب فقط. كانت هناك خريطة الكنز الشهرية وهدفها تنمية المهارات في مادة الجغرافيا: والمسابقات الرياضية إلى جانب الرسم والموسيقى والمجلات الحائطية التي تنمي مواهب الطلاب في الكتابة والنشر.

مأساة الغش

القبول الاجتماعي لمبدأ الغش بمنحه قيمة معتبرة من قبل أولياء الأمور في المناطق الريفية القبلية والمساهمة في تلقين الأطفال الغش من قبل فاعلين اجتماعيين هم بعض المشايخ أو الوجهاء وبعض الأهالي وبعض ممثلي السلطات وبعض التربويين إدارات مدرسية ومعلمين ومراقبين أحيانا مزودين بدعاوى بعضها يقصد النجاح بأي ثمن وبعضها مشفوعة بفتاوى دينية: ليست قائمة على «من غشنا ليس منا»، بل حلال الغش في علوم الغرب وآدابه وحرام في علوم الدين الإسلامي واللغة العربية، (لست متأكدا من أطلق هذه الفتوى على وجه التحديد، ولكنني أؤكد أنني سمعت هذه الدعوى من بعض طلبة قبل عشر سنوات وحاولت مجادلة أحدهم ولكن بدا لي حينها إنه قد رفع الفتوى إلى مرتبة الإيمان فلم أفلح).. كما أن طبيعة المجتمع القبلي تكره العمل الشاق والدروشة ويعتبر الفشل عيبا ويذهب إلى النجاح من أقرب الطرق، لذلك يصبح الغش مؤسسة من حيث القيمة المعتبرة له على صعيد جزء من المجتمع، وهذه القيمة تقود سلوك الفاعلين الاجتماعيين من المشاركين, وهم يقدمون النموذج في سلوكهم أمام أبنائهم بأن الغش ليس مذموما, بل وسيلة من وسائل النجاح دون أدنى جهد.

إن تسلل سلوك الغش إلى المجتمع لم يكن سوى نتيجة اختلال في منظومة القيم وهو ما يهدد بسقوط المجتمع وانهياره وتحلل نسيجه الاجتماعي، وليس الغش هنا هو الوجه الوحيد للفساد الأخلاقي, بل منظومة قيمية كاملة تشق طريقها في المجتمع على أنقاض القيم الاجتماعية التي عرفها المجتمع اليمني وهي مكارم الأخلاق: ومنها ثقافة الفيد والجاه المولد للمال والكسب غير المشروع وغير ذلك، وهو ما يعني في نهاية المطاف فساد الضمير الإنساني نتيجة غياب الوازع الديني وغياب الدولة وضعف تطبيق القانون.

ورغم أن المجتمع متدين ويلقى التعليم الديني الحظ الأوفر في التعليم المدرسي وخارج المدارس والدور الحاضر للمساجد والتوعية الدينية في الإعلام المرئي والمسموع فإن انتشار ظاهرة الغش إلى هذا الحد تعبر عن غياب الوازع الديني الذي يمنع الطلاب أو الأهالي من ارتكاب هذا السلوك الذي يتنافى مع الدين.

والواقع إن اختلاط القيم الدينية بالقيم القبلية على مدى تاريخ طويل, وكثرة الفتاوى المتطرفة ومجتمع لم يتخلص غالبيته من براثن الأمية كلها عوامل لا تساعد على خلق وازع ديني يحقق للدين وظيفته في الضبط الاجتماعي ويساعد في عملية القبول الاجتماعي للغش المجتمع نفسه, فالمدرسة هي مجتمع مصغر, كما أن الأطفال يراقبون سلوك أهاليهم في المنزل وسلوك الناس في الشارع والسوق وفي وسائل النقل والاتصال..

الغش الموجود في المجتمع يبرر الغش في المدرسة، الغش موجود يوميا في المجتمع: في البيع والشراء وفي كل مكان وفي المدرسة حين يصير ابن المدير أو المديرة الأول رغم ضعفه, حين تذهب الأم أو الأب إلى المدرسة ليبرر غياب ابنه بأنه مريض رغم أنه لم يكن كذلك.

كيف يتم التخلص من هذه الظاهرة؟

أولا: يمكن لاصطلاح النظام التعليمي وتخليص طرق التدريس من التلقين أن يكون مقدمة للخلاص من هذه الظاهرة, خصوصا حينما يكون المنهج ملائما لسن الطلاب ويتوافق ومعارف المعلم ولا يجعل من الحشو للمعلومات غايته, بل يترك فراغا للتدريبات والمهارات العملية. وثانيا: استبدال طرق التقويم التقليدية بطرق حديثة, بحيث يمكن للطالب أن يعتمد على عقله في الفهم والتفكير. أي أن المطلوب ليس استجرار أعمى للمعلومات التي حصل عليها بل أن يعبر عن فهم عميق في موضوع الدرس أو الامتحان. ثالثا: أن يتطور وعي المجتمع ويدرك أن مكانة الفرد في المجتمع ليس فقط بالحصول على الشهادة, بل بالمعارف والمهارات التي يمتلكها. فإذا كانت اليوم التعيينات تخضع للمحسوبية والمكانات الاجتماعية التقليدية, فإن المستقبل سوف يكون مفتوحا ومشجعا للمنتجين وأصحاب المهارات والمؤهلات العالية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى