مشروعية حقوقنا

> علي صالح محمد:

> منذ أن بدأت ظاهرة الحراك الجنوبي تتشكل وتتسع على قاعدة التسامح والتصالح ونبذ العنف وتجاوز آلام الماضي، دأب البعض- بوعي- على قمع هذا الحراك بطرق شتى، وتحديدا من قبل من ينظر إليه بعين القلق والريبة والخوف.

وفي إطار عملية التقليل من شأنه تجد من يصنفه بكونه حركة مطلبية خضعت للتسييس والاستغلال من قبل البعض، وعند تبرير القمع والعنف المستخدم من قبل السلطة في مواجهته تجد من يفسر أن الحراك قد تجاوز الأهدافالمطلبية إلى أهداف من شأنها المساس بالثوابت الوطنية كالوحدة والديمقراطية والتعددية، وهي خطوط حمراء لا يسمح بالاقتراب منها، ولطالما استخدمت هذه المقولة ووظفت كثيراً كخيارات وعناوين ارتبطت بثنائية الموت كالجمهورية أوالموت)، أو (الوحدة أو الموت) في عملية الصراعات السياسية المستمرة التي شهدها اليمن منذ قيام النظام الجمهوري وحتى حرب صعدة مرورا بحرب 1994م وحتى اليوم.

وها هي توظف هذه المقولات مجدداً ضد الحراك السلمي الجنوبي لتبرير قمعه، مع أن الجميع يدرك جيدا أن هذا الحراك ليس سوى تعبير عن حقوق سياسية ووجودية مادية ومعنوية كان يتمتع بها الجنوبيون في ظل نظام دولة شرعي وقائم حتى عام 1990 ، وأصبحت اليوم مفقودة، وأن هذا الحراك ليس سوى ردة فعل طبيعية تجاه الممارسات التي انتهجت منذ ما بعد الوحدة وبعد الحرب المدمرة في عام 1994م وأدت فيما أدت إليه من نتائج مدمرة للإمكانات البشرية والمادية ولكل التوجهات الخيرة والقيم العظيمة التي كان يحملها مشروع الوحدة الوطني الكبير وخيارات الديمقراطية والتعددية، وما كان يعنيه ذلك من فتح آفاق عظيمة ومن فرصة تاريخية ثمينة تضع حدا نهائيا لكل المآسي والمحن التي خلفتها الصراعات والثأرات السياسية إن في الشمال أو الجنوب، وتؤسس لوطن جديد مزدهر يستطيع الالتحاق بالقرن الواحد والعشرين، لتسود بالنتيجة وتنتصر قيم وتوجهات تدميرية كالاستئثار والإقصاء والعنف والفساد والتمييز، وهو ما يؤكد أن خيار الحرب كان محكوما برؤى وقناعات ذات أبعاد أنانية قائمة على عقلية ثأرية لم ترتق إلى مستوى المشروع الوطني، بهدف تحقيق أحلام الاستئثار بالسلطة والثروة على خارطة الشمال والجنوب، كتعبير عن حال التراكم الذي وصل إليه الصراع الداخلي اليمني وتصفية الحسابات قديمها وحديثها في كلا النظامين أو بين النظامين.

وكان من النتائج الطبيعية لهذه الحرب أنها أسست لشجرة وقواعد صراع جديدة بين منتصر ومهزوم، بين مستفيد وخاسر يستمد تشكله السياسي أو الجغرافي من الواقع الذي أسست له هذه الحرب وما سبقها أو لحقها من حروب وصراعات لم تغلق ملفاتها بعد، ولا يستثنى من ذلك الحال في حرب صعدة، التي تعبر عن حال التشظي كواحدة من التداعيات غير المحسوبة، الناتجة عن فشل المشروع السياسي الوطني الوحدوي الكبير الذي كاد أن يكون الحاضن الطبيعي لكل المشاريع التي تنعت اليوم بالمشاريع الصغيرة، وأصبحت بفضل نهج الحروب والقمع مشاريع بديلة يلجأ إليها الناس عنوة لمواجهة ما تفرضه هذه الخيارات من مشاعر بسبب الإقصاء وعدم الاعتراف بحقوق الآخرين.

ومن ذلك أيضا أنه لا يمكن لأي عاقل أن ينكر حقيقة أنه حتى عام 1990م كان جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية دولتين وعضوين شرعيين معترفا بهما دوليا في الجامعة العربية ومنظمة الأمم المتحدة، يمتلك كل منهما السيادة والهوية الوطنية المستقلة والشرعية الدولية التي بموجبها كان جميع مواطني البلدين والدولتين يتمتعون بكامل الحقوق التي يكفلها دستور وقوانين كل منهما على اختلافهما.

ونتيجة لعملية الدمج التي تحققت سلميا وطوعيا في 22 مايو 1990 كان من الطبيعي أن تؤول كافة الالتزامات الداخلية والخارجية للنظامين على اختلافهما لتصبح ضمن مسؤوليات والتزامات النظام الجديد وفقا لاتفاقيات الشراكة والدمج الموقعة بينهما ومبدأ الأخذ بالأفضلية من النظامين، وبذلك يحتفظ سكان ومواطنو النظام الجديد بكامل الحقوق والامتيازات من غير انتقاص أو إلغاء في إطار تنفيذ الالتزامات الداخلية لهذا النظام مثلما هو الحال في مسؤوليته تجاه الالتزامات الخارجية كما الحال مع الديون أو القروض أو الاتفاقيات الإقليمية والدولية المختلفة.

والشيء المؤكد أن الجمهورية اليمنية حين أعلن عن قيامها في 22 مايو 1990لم تتنكر لالتزاماتها الخارجية، بل سعت القيادة يومها إلى تأكيد هذه الالتزامات مع الأطراف ذات العلاقة بكونها آلت جميعا إلى مسؤوليات الجمهورية اليمنية الوليدة.

لكن ولأسباب كثيرة- كما أسفلنا- فإنه بمجرد انقضاء شهر الفرح القصير أمكن التنكر والانقلاب على كافة الالتزامات الداخلية التي تضمنتها اتفاقيات الشراكة، بالتمسك بآلية ونظام الجمهورية العربية اليمنية، وتعمد الإساءة للشريك وممارسة سياسة التهميش والضم والإلحاق طيلة أربعة أعوام إلى حد الاغتيالات لعدد كبير من الكوادر والشخصيات السياسية والوطنية، لتكلل هذه العملية بشن الحرب على الجنوب التي دامت أكثر من سبعين يوما، أمكن من خلالها فرض السيطرة الإدارية والعسكرية في 7/7/1994م ليدون في الذاكرة كيوم (النصر العظيم) على كل المناطق التي كانت منضوية تحت مسمى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.

وبذلك أمكن إخراج الجنوب من المعادلة السياسية والجغرافية بالكامل لتختل عملية التوازن السياسي وتضرب معها القوى الحاملة للمشروع الوطني، ويستمر بعدها مشروع التصفية لكافة المؤسسات الاقتصادية والعسكرية والأمنية التي تذكر بهذا النظام، لتصبح أراضي الجنوب مغنما من مغانم الحرب، مما مكن النظام الجديد من ممارسة كل أنواع الإقصاء والإلغاء والمصادرة وممارسة العقاب لأغلب منتسبي أجهزة الدولة المدنية والعسكرية والأمنية، بالتنكر لحقوقهم الوجودية والحياتية المادية والمعنوية التي كانت مكفولة في ظل نظام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، في عملية تخلٍ وتنكر علنية واضحة لكافة الالتزامات الداخلية، بما في ذلك تعهدات الحكومة تجاه قراري مجلس الأمن الدولي رقم 924 ورقم 931 أثناء حرب 1994م.

وهاهي السنوات تمر لتؤكد أن خيار الحرب- وإن استفاد منه البعض- كان وسيظل سببا لكل التداعيات والأزمات مهما عُمل على ترحيلها، ولكل أنواع المعاناة السياسية الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية للجميع.

إن الوطن كجغرافيا لا يعني تلك السهول والجبال والبحار والوديان فقط، بل يعني فيما يعنيه أولئك البشر الذين يسكنون ويعيشون عليها، ومجموعة الحقوق والمصالح المادية والمعنوية التي تتوفر لهم وينعمون بخيراتها كبشر من غير تمييز أو انتقاص، لأنها في مجملها هي ما يحدد نوع العلاقة بين الناس ومفهوم الوطن.

فالوطن يصبح وطنا حين يتمتع سكانه بحقوقهم غير منقوصة، ولا يصبح وطنا حين تسلب حقوقهم فيه، ومن مشروعية حقوقهم يستمدون روابط الوطنية ومشاعر الانتماء الوطني، وبغياب ذلك يصبح الوطن مغيبا في ذاكرتهم وواقعهم، وبالنتيجة يضطر الناس إلى خوض النضال مجددا لاستحضار هذا الوطن الغائب بكل السبل المتاحة، معتمدين على وحدتهم واستفادتهم من دروس الماضي التي كانت سببا في ضياع الوطن وحقوقهم المشروعة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى