مشايخ الغناء اليمني .. القعطبي والعنتري.. (2)

> فضل النقيب:

> والمقصود بالمشايخ أولئك الذين سبقوا فترة التلحين، أي الذين كانوا يتلقون غناءهم عن مشايخهم مشافهة لألحان مجهولة المصدر لتقادم الزمن أو لصدورها عن الإبداع الجماعي للشعب.

أوكامتداد للفلكلور المتصل بالرقص ومواسم الزرع وأعمال البناء وأناشيد البحارة.

وهم كوكبة مابين مغني ومنشد تتفاوت إبداعاتهم وقدراتهم على العزف، وتتباين حلاوة أصواتهم وحضورهم بين التجمعات العامة بين صاحب «كاريزما» مؤثرة كالشيخ علي أبوبكر باشراحيل وصاحب موهبة طاغية كالعنتري والقعطبي والسالمي وصاحب شباب آسر مصحوب بموهبة لاتخطؤها الأذن كبامخرمة وصاحب حضور آسر منكسر بالغ التواضع صافي النبع كقاسم الأخفش وأساطين مؤسسين تحيط بهم الأساطير وتحف بهم الحكايات، وحين ينتقص الزمن من غيرهم يضيف إليهم ويزيدهم تألقا كالأمير أحمد فضل القمندان وسلطان بن الشيخ علي.

ومن حسن حظ جيلنا أن الكثير من هذه الأصوات التي انطفأ آخرها في ستينات القرن الماضي قد تركت لنا تراثا مسجلا عبر الأسطوانات وإذاعة عدن وإذاعة جيبوتي التي لعبت دورا مؤثرا يحتاج إلى مقال خاص، وكذلك إذاعة تعز حين أذن لها بالغناء.

والشيخ في الاصطلاح الفني هو المجيد في فنه المتمكن من مهنته المجاز من مشايخه أو من أستاذ مشهود له أو من إجماع الناس وكفى بهم مرجعية، لذلك فهؤلاء المشايخ حجة في فنونهم رغم التفاوت وهو من الأمور الطبيعية فكما يقال فـ«إن أصابع اليد الواحدة لا يتساوي طولها» رغم وحدة المنبت وتوافق الأداء. وقبل أن أنسى لا بد لي أن أشير إلى أنني فيما أكتب وقائع حياة هؤلاء المشايخ إنما أنا عالة على الفنان الكبير والكاتب البديع الأستاذ محمد مرشد ناجي في كتابه «الغناء اليمني القديم ومشاهيره» فالرجل بحس مرهف استبق الساعة الخامسة والعشرين للزمن الذي تضيع فيه التراجم والسير حين ينقرض جيل دون أن يمسك أحد بأنواره ليجعلها في مشكاة تضيء للناس.

ولم يكن جهد المرشدي باليسير الهين لأنه جاء أيضا في الزمن الرمادي بين المغيب والديجور فقد توفي الكثيرون حين كتب كتابه في الثمانينات وتلاشت ذُبالات ذاكرات معاصرين لهؤلاء ممن سألهم، كما سافر من أجل الكتاب إلى مناطق كثيرة والتقى كثيرين في عدن، وكان عليه بعد الجمع تمحيص القول وفرز الهوى وموازنه الحجج فيما أشكل وما أثقل مع مراعاة الوقت الذي كانت فيه خيول الأيديولوجيا الجامحة تقفز كل الحواجز بحيث يصبح العمل العلمي المتوازن المحايد أشبه بالسير على الأشواك أو العض على الشكائم، وكما يقال فعند الصباح يحمد القوم السرى ، ولذلك نجد في هذا العمل مانحمده ونتمنى له بعد حوالي الثلاثين عاما بقدر مانتحسر على ما فات واندثر وأصبح أثرا بعد عين، ومع ذلك نقول: لعل القليل الباقي يدل على الكثير الزائل إذا ما وجد قصاصو الأثر الذين لديهم الموهبة والجلد لمواصلة عمل المرشد.

إذا استثنيت «القمندان» الذي يتجدد كفصول العام منذ ثلاثينات القرن الماضي فإن في ذاكرتي الطفولية الفنانين أحمد عبيد القعطبي، وصالح عبدالله العنتري، وللذكرى حكاية فقد عاد أحد أقربائنا من المهجر الأندونيسي في الخمسينات ومعه أبناؤه الذين رأوا الفرق بين بلادنا الجرداء وأندونيسيا الخضراء كالفارق بين الجنة والنار فاشترى لأصغرهم تحببا له وتسلية جراموفون واسطوانات للمطربين القعطبي والعنتري وكنا نجتمع عنده صغارا في قريتنا «القدمة» بجبال يافع وكان يدير الجرامافون بإصبعه وهات ياغناء ويادندنة، ومن صبح الله إلى الليل: ماوقفتك بين الكثيب والبان، يقول بن هاشم، ياسيدي أنا لك من الخدام، يالله طلبناك تجملنا وتقضي لنا الدين، قدنا على صبري وماقدر يكون، ياحمامي أمانة مادهاك، وكانت النتيجة أن الطفل المولود في أندونيسيا تعلم العربية من نبع الغناء ونحن تعلمنا الهوى من ينبوع الفن والألحان وثمرات الوجدان، يعني كل طير روح برزقه والحمد لله على ما أعطى وعلى ما أخذ.

الشيخ أحمد عبيد القعطبي من مواليد عدن وهو ابن الحاج عبيد علي بلابل من قعطبة الذي تلقى أصول الغناء عن الشيخ محمد ظافر من مطربي صنعاء، ويصف المرشدي فنيات أحمد عوض قعطبي بأن صوته كان واضحا وجميلا وعزفه وأداؤه في منتهى الإتقان والإجادة وأنه في كل ذلك كان متأثرا بالشيخ صالح العنتري. كما امتاز بأنه كان منظما في إيقاعاته لوجود الانسجام التام بينه وبين شقيقيه عبدالله وعبدالكريم (أسرة فنية)، وكان مؤديا جيدا للألحان الهندية حيث كان مواكبا لأغاني الأفلام الهندية الرائجة والمعروضة بصورة مكثفة في دور السينما وقتئذ، وكان يركب تلك الألحان على قصائد عربية جميلة فتلقى رواجا وإعجابا ويجعل الناس يهرعون إلى حيث يكون القعطبي مشاركا في أية مخدرة، وحتى الهنود كان يطربون لألحانه «والفضل ماشهدت به الأضداد».

أما «العنتري» فهو من مواليد زبيد من قبيلة «بني عنتر» ويعرف أهله في الأوساط المحلية بـ«بني الحضرمي» وقد هاجر إلى أثيوبيا والتقى بالمطرب اليمني محمد شعبان وتعلم منه العزف على العود. يقول المرشدي: في فترة وجود الأستاذ العنتري بالشيخ عثمان وقفت على بعض من سلوكه في الحياة، وهذا السلوك يبدو غريبا ولايوجد له مثيل عند زملائه من المطربين. كان الرجل جسدا للنقاء والصلاة وروحا لخشية الله وحبه يجود القرآن والإنشاد ويؤذن للصلاة ويقيمها بصوته الجميل الصافي النبرات، وكان في «المخادر» يحرص على أداء الصلاة في مواعيدها، ولكنه بعد صلاة العشاء يفعل مايشاء كما يقول المثل الشعبي. أقول لأبي «علي» : لعل له عذرا وأنت تلوم وأنشدك عن «المجنون»:

قالت جننت على ذكري فقلت لها

الحبُّ أعـظـم مـما بالمـجانين

الحبُّ ليس يفيق الدهر صاحبه

وإنما يصرع المجنون في الحين

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى