غزير الســلا ... الفنان محمد عبده زيدي

> الفن «الأيام» فريد بركات:

> منذ ما يقرب من اثنين وعشرين عاماً .. غاب دون وداع، بعد أن عاش حياة من التعب والآلام والأحزان، وكأن لسان حاله يقول :
تعب كلها الحياة فما أعجب ** إلا من راغب في ازدياد
فقد عاش السنوات الأخيرة من عمره القصير معذباً، متعباً، محزوناً .. وفي داخله تختلج النغمات وتحتدم الأشواق والأشجان ولواعج الحسرة والبهجة والكسيرة، فلقد أضحى (محمد عبده زيدي) رهين المحبسين، محبس الدار، ومحبس الشلل الذي أقعده عن الحركة دون بارقة أمل في شفاء إلا من امتثال لمشيئة الخالق وقبول بحكمه وإرادته التي لا رادَّ لها، مع أمل لا يخبو ولا يغيب في شفاء من عنده عز وجل .
لكن يد المنون كانت أسرع مما كنا نتصور .. إذ لا تتقدم هذه اللحظة المهيبة ولا تتأخر بعد أن تحددت في لوح محفوظ بمشيئة الذي لايحمد على مكروه سواه.
غاب (محمد عبده زيدي) مشدوداً إلى سابقيه من عمالقة الفن اليمني والعربي، أمثال أحمد قاسم، جميل غانم، علي السمه، وغيرهم من عباقرة الفن اليمني الذين حفروا أسماءهم في الصخر وتركوا بصمات أزلية، لاتمحى، على صرح الفن الغنائي اليمني إلى أبد الآبدين.
غاب عاشق النغمات ومطوع (اللزمات) الموسيقية اللحنية لخلقه الفني العبقري.. غاب آسر القلوب ومفجر المشاعر الجياشة في النبضات التي تسري في شرايين الحياة الأبدية في أجساد محبي فنه وإبداعاته الموسيقية الخلاقة السلسة.
غاب محمد عبده زيدي بعد أن ملأ الدنيا ضجيجاً وملأ حياتنا فرحاً وبهجة ومحبة وتجليات صوفية روحية.. غنى للحب .. وغنى للفرح.. غنى للبهجة.. وغنى للقلوب التي فارقت البسمة شفاهها.. غنى للسعادة .. كما غنى للحزن والصبر والحائرين .. غنى للوطن .. وغنى للأرض .. غنى للنضال .. وغنى للبائسين المحرومين من مباهج الحياة وملذاتها ومفاتنها .. غنى محمد عبده زيدي لكل هذا ولأكثر منه كثيراً جداً، فقد غنى للصدق، والصدق الفني خاصة الذي صدح بجمالياته في كل نغمة من نغماته الشجية المنمقة المزوقة لأكثر من ثلاثين عاماً خلت من الزمان الرمادي العصي المعجون بأحزاننا وأفراحنا وأتراحنا.. لقد كان الفنان الكبير واحداً من عمالقة الغناء والطرب اليمني والعربي المعاصر الذي جمع بين الأصالة والتجديد في القالب والمقام والأسلوب والتشكيل الفني الموسيقي الداخلي والخارجي .. فعلى الرغم من أنه غادر اليمن إلى القاهرة في النصف الثاني من عقد الستينات للدراسة، بعد أن تفتح وعيه الفني في مدرسة بازرعة (مدرسة بازرعة) في عدن بتوجيه فني من فقيد الفن اليمني - العربي الكبير أحمد بن أحمد قاسم - ورغم أنه قد اختار تخصصاً آخر غير الموسيقى، إلا أن وعيه ومداركه وحساسيته الفنية الرفيعة قد توسعت في قاهرة المعز بصورة لافتة للنظر، مما أدى إلى احتلاله في وقت مبكر جداً موقعاً متميزاً في صدارة الحركة الفنية اليمنية الغنائية الحديثة.
لقد أثرى الفقيد الكبير حياتنا ووجداننا ووعينا الفني الجمعي، بما حققه من مزيج وتركيب فني أصيل ومعاصر مستمد من عناصر التراث الفني اليمني والعربي وزواج بينه وبين التيارات الحديثة في الموسيقى العربية والغربية، مما أضفى على أغنياته وألحانه العذبة الشجية رونقاً خاصاً متميزاً متفرداً من الإبداع الفني الموسيقي الغنائي الرفيع .. نجد هذا التفرد والتفوق والتجاوز في أغنية (الوصية) التي كتبت كلماتها في 68م، ولحنها وغناها فقيدنا الكبير في مطلع السبعينات، بمناسبة استشهاد شهيد الثورة والوطن عبدالرقيب عبدالوهاب .. نجد هذا أيضاً في أغنية (فقدان كثير)، كما نجده في أغنية (غزير السَلا)، ونجده أيضاً في أغنية (أنا عارف ظروفك)، كما نجده في أغنية (السعادة) وأغنية (والله بلدنا نورت)، وغيرها من الأغنيات الوطنية والعاطفية الجميلة، التي ساهمت مساهمة واسعة في تنمية المدارك والمشاعر والأحاسيس والوجدان الفني الجمعي في صفوف الناس في بلادنا اليمن.
ينساب الحديث عن الفنان اليمني الكبير محمد عبده زيدي شلال ماء عذب ونبعاً لا ينضب، فقد أعطى محمد عبده زيدي الناس عصارة القلب والوجدان معاً .. إذ لا إبداع إلا ويمرّ عبر نبض القلب والوجدان والصدق الفني والسليقة الجمالية.. وقد كان محمد عبده زيدي يجمع بين هذا كله.. لقد كان كل هذا.. كان غيمة نسل تروي بدفئها الصيفي الوجود.. كان زورقاً يشق عباب البحر والأمواج نحو المجهول في رحلة أبدية مجبولة على الكشف والريادة والنبوءة في مهمة بكر لا حدود له.
كان محمد عبده زيدي جزءاً لا يتجزأ من ذاكرة شعبه الفنية والثقافية الجماعية.. كان يؤثر فيها ويتأثر بها .. كان هو هي.. وكانت هي هو.. تصهره بوتقتها العميقة عمق النفس البشرية السحيقة، التي لا قاع لها ولا حدود، في كاريزما النجومية والنبوغ.. كان جزءاً لا يتجزأ من مشروع حضاري فني ثقافي جمالي عظيم.. كان متحداً بقيم عصره وآفاق المستقبل الفنية والثقافية الجديدة منفصلاً بحدة عن نفق الاغتراب المعجون بمخلفات القرون الوسطى، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.. كان يبحث بحثاً دائباً عن غد أفضل وعالم أجمل ومُستقبل مُشرق عزيز لايفقد الإنسان فيه آدميته، ولا تصادر فيه حريته وحقوقه المشروعة وأحلامه وآماله.. كان محمد عبده زيدي متوحداً بالفن متشحاً بالنغم الجميل.. كان فناناً مبدعاً على أبواب مملكة الحب التي بناها - مع غيره من المُبدعين - بإخلاص حتى يوم وفاته .
لقد كسر قاعدة التقليد التي كانت ترى في الغناء اليمني، مقتفياً خطى أستاذه الفنان اليمني الكبير أحمد بن أحمد قاسم، فانطلق كالجداول والأنهار والأمطار يروي الصحاري المُجدبة.. كان يجي في رقة الفراشة، في أدمع الشتاء حين يبكي، وتتقد جمراته البيض تكسو الجبال والوديان والهضاب.
والحديث .. قبل وبعد.. يطول ويطول عن محمد عبده زيدي، تلك القامة الشامخة التي كان عطاؤها سخياً، غنياً، بهياً .. فلقد كان - يرحمه الله - يتمتع برهافة حس وعظيم جرس.. وقد عبر فيمن عبر.. يرحمه الله.. إلا أنه يظل الفنان الخلاق المبدع المطبوع الذي تتلقف الأذن الشرقية نغماته وألحانه وأداءه بما يُناسبها بعاطفة رقراقة.. كان نابضاً حتى العظم بالاحساس والخيال والتناغم، حاملاً مشروع التحديث الفني مع الرواد من رموز المجددين، نحو غاياته المرجوة المنشودة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى