وربي

> الفن «الأيام» علي مهدي المحلتي:

> مُعَانَاةٌ مَا بعَدْها مُعاَناة، يمُرُّ بِهَا الفنان الكبير والخالِد أحمد بن أحمد قاسم في تُعَلقُِّهِ بالحُبَّ الخالد، الذي أنتَجَ قِراءة لا يُمْكنُ أنْ تتجًسَّد في لوحَةِ فنَيّةٍ جَميلةٍ لولا إحْسَاس الأدِيب والشَّاعر مُربَِّي أجيال عدن الأستاذ التربوي الخالد لطفي جعفر أمان، والتي فاجَأ بها صديق عمره فناننا القاسم بأسلوب لا يمكن فَكُّ رمُوُزه إلّاَ مِن خلال ما سُمِح بهِ أن يتسَرَّب للِمكانة الرفيعةِ في قلَبيْ وسلوك الثُّنائي الجميل وحيَاتهِما في قلب مجتمع مُحافظ وأهل طيبين في مدينة الجمال والحب عَدن، واحتَرام الدين والأعراف والقيَم والمكانة للأثنين - لطفي وقاسم ـ بالرغم من أنَّ الأوَّل وهو الشاعر فجَّر بالكلمات الجميلة ملكات الفنان القاسم وكأنه قدم لهُ وصفْة دواء شافِية تمنحُهُ بعضا من الوقِت لعلَّه يعثر فيه على حلول قيميّة يستطيع فيها القاسم إقنْاَع الحبيبة الكاثوليكَّية الإنجليزية باعِتناق دينه وهو الإسلام، هذا من ناحية ذاتية، ومن ناحية موضوعية ليست بيَد الشَّاعر ولا الفنان كأن يعثَرا على فتْوى دينية في المكتبة الإسلامية يجتمعُ فيها قلبَا الحبيبن المُسِلم والمسيحية الكاثوليكية.
وهُنا تجسَد التعبيْرُ الدقيق للموقفِ الدقّيق والحَّساس للقلبِ المُؤمن في شاعِرنا لطفي جعفر أمان، في كيفية مُعالجة الحالة النفْسية التي كادت تعْصف بفنان عدن والجزيرة ذي الطابع اللحني المصْري، كما قيل، مع احِتفاظنا بحَق الرأي باعتبّار أن الفنان الرائع والخالد أحمد بن أحمد قاسم كان ذا منهج أسسّ من خلاِله فناً عدنياً صرْفا بِاستعلاله تنوع إيقاعاته وجُرْأة قاسمه في الحَفر بقوة في مشَاعِر وأحاسيس أبناء عدن وغير عدن، فصنَع جمُهُوره بشجَاعة وقدّس رسالته الفنية دون الالفتِات إلى الخْلف طوال حياته، وإن ما يؤكد وجُهة نظرنا، نجده في أن فَناننا القاسِم استطاع أن يصنع شُعراء أغنيته وبالتَّالي قدمهم بتِلك الجرأة إلى جمُهوُره ليشُاركوه هذا التألق وهذا الجمال الذي تفخر به عَدن باعتبِاره يُجسد هويتها.
إن هذه الأغنية الجميلة هدأت من صدمة القاسم أحمد التي حاول المتلطف لطُفي من قبل بالتحدي في جعل أحمد قاسم يتغنى بشهيرته (ياعيباه)، مما يؤكد أن الفنان الجميل لم يكن مُقتنعاً بتبادل الهجر بالهجر مع الحبيبة، فكانت (وربي) خير تعبير لواقع مؤلم كاد أن يَلغ في نفس الفنان وربما يُسفر عن خروجه من مُتنفسه عدن إلى المجهول، ناهيَكم عن وُلوغ الحالة النفسية فيه والتي ستحرمنا ذلك الجمال في فَن رفيع التذوق نُفاخر بهِ الإيقاعات المُشابهة في مصر والشام اسمُه الفن العدني.
في هذه الأغنية يُلفت انتباهنا الأستاذ أحمد بالمُوسيقَى الراقصة التي تجتذب الحبيب والتي نتحسسها في أن السعادة بلغت الذروة في احتضان الرقصة للحبيبين، فتنساب الموسيقى هادئة ليهمْس الفَّنان الشاعر في أذن الحبيبة بالمطلع اللحني الجميل (كِلمْة منَّكْ)، والتي يجَسد إيحاء الأداء - لِما تلاها من نفس البيت الشعّري - أن القاسم يشد من اجتذبه الهمس السَّابق وهو الحبيبة بأن يرفْع من صوت همسِه في (كِلمْةْ وحَدْه) فإذا به عائداً بأداء جوارحه كلها في تكملة البيت الأول من المطلع (يفتْح الدُّنيَا لِقلَبي)، ليأتي بالبيت الثاني على نفس الأداء مع الفارق الموسيقي الذي حَّول فيه الهَمس إلى إجهَار (كِلْمة حِلْوهْ) لُيفصِح عِن فرحة ما بعدها فرحة وهِي بالغِة الدلالَة في إنطْاق رنة العُود بتلك الرَّنة التي بقيَت كمَا هي مُوح بها عنْ رنَة أجراس كنيسة الحبيبة (فيِها رَنَّه فيها أشواقي وُحبَّي) وكَأن أحمد قاسم يُؤكد لها أن في ذلك الصدر ليس الشوق والحب وإنما أبعد من ذلك بمَا ليس يخطر إلا عند من يتحسس هذا الذوق الفرائحي، فالصَّدرُ استحالَ إلى معَبد ودقة القلب استحالت إلى رنَّة جَرس ذلك المَعبد، فيشُد السَّامع بالبيَت الثالث بَرقصْة خفيفة ثقيلة مُدلَّلة وَإن رفَع فيها حدة الأداء من خلال (لمَّا أسمْعهَْا) ليقول المنسجم ماذا بعد؟ فإذا به - أي المُستمْع - يعيش جوقة في جانحي الشاعر بأدائه الشعُوري (تِغنَّي كُلّ أشواقِي بُقربي)، فإذا بك تتحقْق منِ صوتهِ في البيت الثالث القائل (كِلمْة رَدّتْ لي حياتِي) بأنه أحَس بعودة الوعي لمَشاعر الشاعر الفَّنان، فيكمِلُ باقي البيت بالإعلان عن سَّر رقصات الفرح للمطلع الراقص في المقدمة المُوسيقية وانعكاس قول الحبيَبة ليعَلم من لم يعلم بأدَاء أبلغ من الكِلمة الشعرية القائلة (لمَّا قُلتِي لِي وُربي أنت حبي أنتَ حُبي أنت حُبي).
كِلمْه مِنكْ.. كِلمَْه وحَدْه تِفتْح الدنَّيا لِقلبي
كِلمْهَ حِلْوه فيهَا رنَّة فيها أشواقي وحُبي
لمَا أسمعْها.. تغِني كُل أشواقِي بُقربي
كِلمْهَ ردَّت لي حياتِي.. لما قُلتي لِي وُربي
أنت حُبي أنت حُبي أنت حُبي
في المقطع الثاني روح الأستاذ لطفي الشاعرة يستبعدها الشاعر الفنان تماماً، فالأستاذ لطفي يُحس بِه منْ عرفه بأنه يُتمتم في أذن الحبيبة، وما يؤكدُ ذلك الشعور هو أن الأسير بِحاجة إلى من يفك أسره (أيش جابِك لا سنا قلبي مَلكتيه أسيرْ)، ولكن القاسِم الذي يتألم فرحاً راقصاً بهذا الأسر لأسير دَخل زنزانة الحُب عن خاطر رَاضٍ بكُل النتائج التي يتوقعهْا وحتى التي لا يتوقعْها في أداء معبّر للبيت الثاني (أيش خلاَّنا أحِبّكْ والذي بَايْصيِر يصيِرْ)، فإذا به في أدائه لنصف البيت الثالث (أبداً ما كنتَ أفكَّرْ) يوحي إليك عن قصد بأنهُ أحَسَّ بغلطة فتَعتقِد أن تلك مُغامرة أقدّم عليها، خاصة وأن أداءه برفع نبرة الصوت تدريجيّاً، ولكِن جمال الحب العدني - وأقول العدني لمِنْ يعرف معنى الحب العدني - دَفع بالفّنان أن يأتيك بطعم خاص لهذا التذوق في رفع نبرة أدائه لِـ (إنَّي بَا حِبكْ كِثيرْ)، بل تُجبره بصمات الحب الجميل أن يستمر بالإفصاح عن ذلك الحبَّ الصادق دون تردُد، وفي نبرة أعلى لـِ (فوَق مَا تتصْوَّري)، أما أداؤه لاستكمال البيت (لو كُنتِ تِدْري بي) فإنَّهُ يثير لوعة التعلق في قلب الحبيبة التي بَدأتْه قائلَة (وُربَّي أنتَ حُبُّي) فيأتي بالتقفيلَةِ السابقة التي اعتمَدها في كلَّ المقاطع (وُربَّي أنتَ حُبُّي) المُعبرة عنْهُ هو ردٌّ على قولِها لَهْ (وُربَّي أنتَ حُبي)، حيثَ تحوّلتْ (أنتَ) إلى (أنتِ).
أيش جابِك لا سنا قلبي مَلكتِيه أسِيرْ
أيشْ خَلانا أحبَّك وَالذي بَايصِْير يصِيْر
أبَداً مَا كنتَ أفكَّرْ أنَّي بَا حِبك كِثيرْ
فَوق مَا تتِصْوَّرِي
لَو كُنتِ تِدْري بي وُربَيَّ أنتِ حُبيِّ
في المقطع الثالث يرقص اللحَّن للشاعر بالكلمة بعد تيقّنه من الحب الطاهر لمشاعر الحب الصادقة، بحيث تذوق ذلك في أدائه لكلمة المطلع لهذا المقطع وهي (اسمْعَِي)، وتكاد ترى نشوة الفرحة بابتِسَامة مضغوطة في قلب المؤُدي لهَا وبوقفة إيقاعية خفيفة، يستطردُ ولا يستدرك بأستكمال البيت (أشتِيْ أقُولْ حاجَة وُمِش جَاسِرْ أقولْ) هَادفاً بهذا الأداء الجميل والمُعبر إلى الإقرار بشيء قد تكون الحبيبة غير مدركة لَهُ، ولكِنه في (مِش جاسِر) سَحب الشاعر لُطفي الهامس بعدَنيته لها، إلى فتوة القاسم الذي عبّر بها في نَشوى غِامرة ليدْرأ عنه شُبهْة ما قد تكتِشفُه الحبيبة، وذلك في الفارق الديني الذي يحول دون مواصَلة الحَّب السعيد، ولكن الموسيقار العظيم بعد تَلفتهِ إلى كَّل الاتجاهات مِنْ حولِه يهمس بقِوله (والا باقٌولْ لِكْ) فلمّا التَفت أخِيراً إلى مكنون إيمانِه بعقيدته الإسلاميَّة عاد ليجدهَا في قلبهِ رَاسِخة فأعطى المَعنْى لِها بِما لا يمكنْ على الإطلاق أن يطبقه في غير ذلك الأداء، فينتزع من قلبِه المُفعْم بالحب والآمال والأحلام حقيقة قدسيَّة هذا الإيمان بالإسلام الذي لم يغِبْ عن الذوق العدني الأصيل في عدم جرح شعائر دينِه ومَشَاعَر حبِّه لحبيبة من غير دينَه، فأدَّاها بذلك الجمال الفني الرفيع الدلالة، وقالها (وقلبُي بَرضْهُ مِشْ قاَدِرْ يقولْ)، هُنَا جعلَك هذا الفنان الجميل تنظر إلى لَوحة فيهَا من التردد المُحتشِم مَا يمكنك بالاقتناع بأنه ليس لَديه ما يقولهُ للحبيبة، (أسمْعَي أشتْي أقُولْ حَاجْة ومُش جَاسِر أقولْ وَالا باقٌولْ لِكْ وُقلبي بَرضهْ مِش قَادرْ يقولْ)، فتتساءل بالعدنية (بيقول وَالا مِشْ بيقول ذا الحين) فيقطع عنك استرسالك في البحث عن معنى (بيقول والا مش بقول ذا الحين)، فهو يقطعُ عنك ذلك الاسترسال بالإقرار عن أسباب تردّدِه في تساؤلكَ (بيقول وَالا مِشْ بيقول) دُون الإفصاح بما لستَ على علم بِه، وهو الفارق الديني، ليُحليه في قْهر تَمالك فيه ربَاطة جأشِه الذي تكاد ترى فيه أحمد قاسم من خلال صوتِه والعبرة تخنُقه في أدائه للبيت الثالث (أنا خَايف إنَّ هَذا الحُب بيننا مَا يطَولْ)، فيخطفُك بعيداً عن حِقيقة وازعِه إلى التقفيلة السابقة في أدائهِ لـِ (لَو كُنتِ تِدْري بي) فإنَّهُ يثير شُحنة لوعةِ التعلُُّق في قلب الحبيبة التي بدَأتْه قائلة (وُربَّي أنتِ حُبَّي) المُعبّرةِ عنْه هو ردٌّ على قولِها له (وُربَّي أنتِ حُبَّي).

اسمْعِي أشتْي أقُولْ حاجة ومش جاسر أقول
والا باقول لك وقلبي برضه مش قادر يقول
أنا خايف إن هذا الحُب بيننا ما يطولْ
لو كِنت تِدري بي وربي أنت حُبي
وفي المقطع الأخير كان الأستاذ لطفي معالِجاً نفسياً بارعا للحالة النفسية القاهرة لهذا الفنان العدني الصادق المشاعر والشعَّائر، ودون الإعلان المباشر خطف الفنان الجميل مَا قَرأهُ بين حروف المقطع من معانٍ، ليَتوجّه إلى من سينتقدُ مثل هذه الحالة تحت سقف الدين لمنع أحمد قاسم عن اعتناق دينِ غير دينِه لا سمح، وسقفِ حالته في (كُلَّ يُومْ وكُُلّ ساعَة وُكُلَّ لحِظة انشغل بِكْ)، وقد أخذتِ الحبيبة كلّ اليوم وكل الساعةِ وكل اللحظة، ولم يتَبقّ لهُ استذِكار شيء في الحياة من مَهام بما فيها العِبادة، وأين يكون انشِغَالُه في غير الحبيبة، وهو الباحثُ عن حلولٍ مما أفقده الاهتِمام في غير الحبيبة وُمهمِة بناء الأحلام (أذكُرك أنسْى حيَاتي أبْني أحْلامِي بُقربْك)، ومَا ارتفِاع نبرة الأداء للحن الراقص للبيتين الأولين من المقطع إلا دلالة توحي إلى عدن الالتِفات لغير الحبيبة، ومَا أداءُ عبارة (أذكُركْ أنَسى حَياتي) هَمساً في أذنيها إلا تاكِيداً حسيّاً للوحة صادقة الجمال في البُحث عن حلول لمؤمنِ بشعائر دينه، أما رفع أدائه لتكملة البيتِ الثالث (أبْنِي أحْلامِي بُقربْكِ) فإنَّه تعبير بالِغ الدلاَلة لِما لا يمكن التراجع عنه، فما رَأيك عزيزي أن نرسُم آخر مشهد في لوحِة المقطع الأخير من خلال يدَين أرخَى تماسُكها الحبيبان وبَدأتَا في اقتِناع يشُوبهُ التَّردد أثناء الانفكَاك وهو يقول لها (كَمْ أحِبكْ) مكررة بتنهيدة في آهةٍ مؤلمة حتى يعود إلى تمالُكِه قائلاً (أيشْ خلانَا أحِبكْ) آمِلا منها بذلك الأداء أن تبحَث معه عن حلول لهما في وسُطِها الديني، فيخطفُك بعيداً عن حقيقة وازعِه إلى تقفيلة لا غُبار على مشاعره تجاهها لم يعد فيها (لو كُنت تِدْري بي) لأنهُ متأكد من تبُادل لوعة التعُّلق في قلب الحبيبة وقلبِه الذي يحسسّها أداؤه مسمِعا منْ حولهْ (فــوق مَا تتِصْـَوَّري) غير آبهٍ بِهم ليُلحقَ أداءه ذلك بيمينه الصَّادق الذي بَدأته قائلة (وُربَي أنتَ حُبي) فيقولُ لها (أنتِ حُبي)، بنهاية غير ودَاعية في لحن الأغنية.
كُلَّ يُوم وُكُل سَاعة وُكُلَّ لحْظة أنشغل بِكْ
أذكُرك أنْسى حيَاتي أبني أحْلامي بُقربكْ
كَْم أحبك أيش خلانا أحِبكْ
فوق مَا تتِصْورَّي وُربي أنتِ حُبي
لاحظ قولها (أنتَ حُبي) التي وردت بلسانها مرة واحدة، رددها الشاَعر لطفي وأحمد (الفنان) ثلاث مِرات.. وأن أمكن لأحمد قاسم لقالها (كل يوم وكل ساعة وكِل لحظة)...

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى