ظلال وافكار

> أحمد محفوظ عمر:

> الجدران الأربعة تحتويني ... والليلة قمراء، وانأ متكئ في صدر الغرفة الباردة أشغل جزاءا من فراغها المحدود والوحدة تلفني في جوفها الفضفاض من الزوايا الأربع.
القات أمامي ينطرح ببطن الرداء الأبيض في استكانة وتسليم ..وأغصانه تتدلى بإغراء أصابع تمتد إليها وتقتطع رؤوسها بحنان ..ثم تدفعها إلى فمي برفق وتؤده من بين الأسنان تنبعث خشخشة مؤنسة تبدد وحشة الليل والوحدة .
سرت في طريق المسفلت وأنا أضرب بقدمي ضربات حازمة وسريعة وألف يدي على حزمة (القات)في جانبي الأيسر ...رأيتها فجأة في زاوية السوق المظلمة..
توقفت شيء ما أوقفني ..ظلت يدها ممدودة بالسؤال وابتسامة شبقه داعية ترف فوق شفتيها..عيناي المسلطتان على صدرها الناهد لفتتا انتباهها ..فاتسعت الابتسامة..عرفت ذلك بالرغم من الخمار الشفاف على الوجه الأسمر ,لقد لمحت الأسنان البيضاء تتكاثر مع انفراطه الشفتين.
فقلت لبائع القات قبلا السعر مرتفع يارفيق.
رد بنصف اهتمام الأسعار كلها مرتفعة ألا تعرف؟
يدها مازالت ممدودة وصدرها زاد بروزاً حرارة جسمي تسعر
كم تريدين يارفيقة؟
نصف شلن.
فقط
إذا تكرمت فشلن واحد.
ما أرخص السعر للبشر عندنا ناولتها القطعة الفضية وشيء مافي جسدي انتفض وتكوم تحت اللباس عرفت كل شيء خطت نحوي خطوتين..
الابتسامة تتسع والأسنان البيضاء تتناسل في فمها..وأنفاس الرغبة تهدر من عينيها وتراجعت إلى الخلف خطوتين مخافة الاغتصاب.
استدرت وسرت في الطريق المسفلت أضربه ضربات أسرع ولم ألتفت إلى الخلف ..أنفاسي المبهورة في داخلي تضج في فضاء بلا ضوء وأنا سادر في ضرب الطريق بخطوات بلا إيقاع منتظم أتخيل صدرها أرضاً براحاً ينتصب في طريقها مبنيان نافران بتواز منسق.
غصن القات هذا لذيذ ولكنة غال أغلى من حذائي الشاحذة الشابة والخبراء عندنا يؤكدون أن الأجود هو ما صغر غصنه وكبر عودة ..ما أطرب خشخشته بين أسناني ...يبدد سكون الغرفة ويعتنق بدخان السجائر السابح في الفراغ المحدود.
كيف يكتسب الفقراء هذه الصدور الثرية ؟سؤال ملح يطن برأسي دائماً..وفي الغرفة الأخرى يتكوم الأطفال فوق سرير واحد..وحولي الفراغ المحدود,والهدوء الواسع المهيب.
آه شربت رشفة ماء ولكن أعقاب السجائر أمامي كثيرة وأنا أجندل رؤوسها بعد امتصاص قاماتها بين شفتي بلذة محتل أشقر.
في شهر رمضان يكثر البغاء ..تخرج النساء من الخدور بعد الفطور وتمتلئ بهن الدكاكين والأسواق والساحات العامة والشواطئ وتمارس الفحشاء خلف أبواب السيارات الموصدة والمفتوحة وعلى الرمال الشاطئ وفي خبايا البيوت وظلمة الأركان وتختلط آهات الشبق بأصوات المآذن قبل ثلاث أيام قالت إحداهن لطفتها اشكري عمو يا هناء.
ولجت بعد صلاة العشاء دكاناً لبيع الملبوسات مزدحماً بالناس ..ووقعت نظراتي على مرآة منحنية إلى الأمام تحادث صبي الدكان الذي كان مشغولاً بإعادة الحذاءين الصغيرين إلى العلبة الكرتونية..وإمامة طفلة عمرها عامان..تتشبث بالعلبة باستماتة وتنازعه السحب...اقتربت أستطلع الأمر..فاعتدلت المرأة في وقفتها،وظهر وجهها الأبيض الجميل رائعاً من خلف الطرحة الشفافة السوداء..ولكنه يحمل لمحة انكفاء آنية..
بعد أن رفض صبي الدكان أن يقبل منها ديناراً واحداً،وأصر على دينارين ثمناً للحذاءين..شعرت بسهولة الاصطياد ..فهمست لها بجرأة وسط الصخب العامر..هل أقرضك ديناراً؟
نظرت إلى وجهي برهة تفحصني..فاعتلى وجهي الارتباك ..ولكنها بددته بحماس:ادفع.
أخذت منها الدينار،وأضفت فوقه آخر،وناولتهما للصبي..فتخلى عن العلبة للطفلة..
عدت أهمس للمرأة متى أسترد الدين؟
ضحكت ببسالة وردت:سوف تسترده الليلة..وبالطريقة التي أردتها أنت. والتفتت إلى طفلتها وحثتها :أشكري عمو يا هناء.
اقتربت الطفلة مني ،وهي تطوي يمينها على العلبة ..وجثت على الأرض تطوق بيسراها ساقي وتقبلهما .اهتزت من أعماقي..فسألت أمها معنفاً:لماذا تعلمينها أساليب الاستجداء؟
ردت والدهشة تفترس على الوجه الأبيض الجميل إنها تعمل هذا للمرة الأولى .
أسقطت نظراتي على الطفلة من علٍ..فاصطدمت بنظراتها المتسلقة الحامدة،وتمتمت بلغه طفولية جذلة :مثكور يا عمو.
وأحسست بالطعنة تخترق الحجاب الحاجز وتمزق نياط القلب،وبالعرق يتفصد من جبيني ..انحنيت..وأمسكت بالطفلة الراكعة من إبطيها بيدين واجفتين..وأوقفتها على قدميها..واستدارت خارجاً من المحل..أشق طريقي وسط الزحام بنفس طعينة.وأعصاب منهارة ...هارباً من الطفلة التي أحالتني إلى هيكل متداع أمام جبروتها البض الضئيل..وصوت المرأة يلاحقني الطريق من هنا..الطريق من هنا.
ولم أستجب.
أوه ..ماهذه الأفكار الداعرة..الليلة..ليلة رمضانية مباركة ،الملائكة يسبحون بحمد العظيم المتعالي ..والشياطين تعربد بأفكارها الفاسقة في رأسي.
آه ما أطيب غصن القات هذا أخضر رطيب ينكمش وينطحن تحت فكي الأيسر ثم يتلاشى من هناك ويتكوم خلف الفك الأيسر من الداخل في فترات متباعدة ثم يبدأ في الذوبان البطيئ والاختلاط مع الريق ويتسرب إلى الداخل بانسياب متمهل فريد...فيبعث في الجسم خذراً لذيذاً وفي الرأس حركة نشطة مبهجة.
الصحيفة أمامي ملقاة بإهمال مهيب مثل مومس جرباء أحسست بالتقزز وأنا أقرأ في صفحتها الأولى كلمة رئيس تحريرها وهو يصف اقتتال اليمنيين بإنه أمر غير ذي بال لولا الاستراتيجية العسكرية للمنطقة آه لو أطول رقبته.
أوه..شيئ مؤسف عود(القات)تمزق بين اصابع يدي ...وتكرمشت اغصانة بفعل الحركة الغاضبة شى مؤسف حقاً .. معذرة ايها الغصن .. انك اثمن من تلك الرقبة المطلوبة .
الريح تصفح زجاج النافذة من الخارج صفعات متباعدة ،وينسل صفيرها الى اذني هدوء الليل المنبسط...فتحت جهاز الراديو لابدد سكون الغرفة.. واكن سرحت في حومة وغى.. قصف مدافع وازيزرصاص .. انفجار قنابل ..دماء ..جراح ..انين دخان يتسامق .زرؤوس تسقط..طائراتترعد.زانفاسي متلاحقة وحارة ..تحولت الى زحير . ثم الى خوار..خرجت من قعقعة المعمعه حين سقطت زجاجة (الكولا)امامي بعد ان ركلتها بقدمي بحركة لاارادية..انا محاصر في هذه الجلسة .زالردايو تنقلني الى عوالم الدمار .ز وافكار شبقة لعينة تدنيني من نار جهنم ..والليلة رمضانية مباركة ..لايهم ..فلا ترك كل كل شى الان الى حين انني مشوق الى اغصان (القات )اللذيذة ..امتدت يمنني الى الرداء الابيض المبلول امامي ..وثنت طبقتة الاولى ..تبدت العيدان فوق بعضها البعض كسيقان فتيات الحور ،يتشمسن في ضفاف شاطى مسحور ،بنغنج مداة ،سحبت عوداً..اعدت الطبقة المرشوشة الى وضعها الاول ..فاحتوت بقية العيدان بدثارها المبرد المبلول .زلتبقي لها طرواتها .قربت العود المندى الى وجهي .. ريته يتلوى ويتأود وانا اركزه امام عيني ..متقلاً باغصانة المعرشة الخضر .امتدت يمنني تقتطع اوراقة بمهل ونشوة.وتدفعها الى فمي .زفتتلقاة اللسان بشوق وحنان ،وتحليلها الى الفك الايسر حيت تتكرمش وتنطحن.
إنني الآن أشعر بروحي خفيفة شفافة.. تتحرك بيسر ورشاقة .. وتنتقل في دغل الأحلام الهادئة المبهجة.. تشرب من معين السعادة، وترتوي من منهل الإطمئنان وتسبح في رضاب الانطلاق المعطر.
حاولت أن أجعل من الطفلة مصيدة لأمها .. فتحولت أنا إلى صيد.. سوف أشعل سيجارة بعد هذا الغصن المياس ..آه.. ما ألذ هذا النفس .. الدخان يتعقد أمامي إلى أعلى.. رأس السيجارة يتوهج بجمرة حمراء.. وهذا الدخان يذكرني بميدان المعركة وقعقعة السلاح .. المتكأ تحت جنبي الأيسر وطيء.. يجب أن يرتفع إلى أعلى قليلاً، هذه وسادة صغيرة تفي بالغرض. نعم .. هكذا أحسن.
أسنان الشحاذة بيضاء.. أنا متأكد أنها لم تستعمل فرشاة لذلك.. لابد أن مادة الكلس متوفرة في جسدها بكميات كثيرة.. لكن الملعونة كادت تغتصبني علناً.. والليلة.. ليلة رمضانية مباركة.
أنفاس السجائر تذوب وتتلاشى.. تماماً مثل هذا الغصن الذي ذاب بين أسناني ولم يقم بالتعزيز المطلوب.. سوف ألحقه بغصن آخر.. هذا يكفي.. وهذا أيضاً سوف يجلمد ما بقي من أغصان (القات) المطحونة في فكي الأسفل.
امرأة أجنبية في العقد الرابع، أخذت غصناً من أغصان (القات) في السوق .. ومضت تقلبة بدهشة.. وزوجها يقف خلف آلة التصوير المتحركة.
تساءلت :
- كيف طعمه؟
- جربية.
- ما مفعوله؟
- جربية .. لن تتركي زوجك البغل ينام طيلة الليل
لمعت عيناها ببريق مفاجئ سار .. واقتربت .. وكادت تلتصق بي
- هل مفعولة أقوى من الويسكي عندنا؟
- لا يوجد مقارنة بين الاثنين
- كيف
- إنه أقوى.
عظمت دهشتها .. وعيناها تتوقدان بنظرات شبقة.
- كيف تقضي ليلتك بعد مضغة؟
- أقضية سابحاً في بحر من الرغوة والعطر والجنون.
نفرت من أمامها.. وأنفاسها الحارة تلفح وجهي .. وقد طوقنا حشد من الناس .. وزوجها يتهيأ لتشغيل آلة التصوير بانتصار .. ذبت بين تلافيف الناس.. والكتل المتزاحمة .. ووقفت برأس السوق أسترد أنفاسي المبهورة وألقيت نظرة أخيرة.. رأيتها تبحث عني بدأب واهتمام.. ثم اقتربت من زوجها.. وتبادلت معه كلاما قصيراً .. وبعد، مضى الاثنان يبحثان عن شيء ما بنهم وجنون .. ولكن بدون جدوى .. قبح الله هذه الذكريات الملعونة.. الليله.. ليلة مباركه، وأفكار السوء تعشش في رأسي.
كانت نظرات المتلحقين في السوق علينا رجوماً للشياطين.. ولكن المرأة الأجنبية تلك كادت ترتكب عملاً فاضحاً على رؤوس الأشهاد.
آه .. آه .. قبل هنيهات.. شرَعتُ إلى الفضاء فكراً رهيباً.. شكله سيف .. وطرفه نصل مبروق براق .. فهالني التماعه الدامي .. فعدت أغرسه في أعماقي لاطفئ تلألؤه الوهاج .. وأتلظى بلهب جحيم لا ينتهي في داخلي.
تمكنت الطفلة من تحويل جسدي المشتهي إلى جرح كبير مفتوح، ينزف صديداً أسود وآلاماً لا تهدأ.
هذا العود من (القات) سوف يدعم الكمية المتلاحقة في فمي .. الجريدة ما زالت ملقاة أمامي .. وأنفاس بخراء تنبعث من بين سطورها .. (<دماؤهم غير مهمة) فجأة صرخت لأبدد السكون المطبق على الغرفة - هل دماء الموسرين هي الوحيدة الغالية لديك أيها الصحفي الجهبذ.
يا إلهي .. ماذا عملت. كدت أيقظ الزوجة والاطفال، أوه كم مروع الصراخ في الهدوء الموحش، جرعة ماء تبلل أعماقي الحارة.. هذا أفضل .. وهذه سيجارة أشعلها لأنفث أنفعالي عبر دخانها المتلاشي من جو الغرفة.. وهذا عُشب معشوشب من (القات) يسبك انهيار الأغصان المدقوقة.
آه الحزن المعتق بدرك أعماقي ببشاعة، أتنسم القول الداعر من الصحيفة الملقاة أمامي كموس جرباء .. الأنفاس النتنة تعبق حولي من كلمات مرصوصة، شكلها قلم موغل في ليل الانهزام والنرجسية.
القمر يطل من عليائه .. ويضرب بنوره الفضي زجاج النافذة المصلوبة على يساري .. لابد أن السحب قد تفرقت من أمامه، بعد أن أوحشها ظلام ظلها على الأرض.. ولكن الصحفي العظيم تناسى أننا نحمي ظهره، فتنمر .. ودق رؤوسنا بسيف مصدوء يقدح سماً.
دخان سيجارتي يرتفع عموداً إلى أعلى .. ثم يأخذ في التلوي والتلاشي .. ويدمغ كل الغرفة بعبقة المتضوع.
هذا العود يتململ ويرتجف بين أصابعي .. وأنا أجز أغصانه بولع وتمهل .. والهدوء المرشوش بالسواد، يحتضنني مع الغرفة والبيت والدنيا كلها .. وأمثال هذه الليالي تتفتح فيها أبواب السماوات ويتجلى أمير الأكوان على عبادة المضطهدين وتلك المرأة كادت أن تفلح في مسعاها الرجيم.
المسحراتي يضرب على الطبلة .. والقمر يضرب زجاج النافذة بنوره كل وهلة وأخرى .. وأنا أضرب القات وأسيله .. وكل شيء حولي يضربني بعنف، والليله .. ليلة رمضانية مباركة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى