متحف هيئة الآثار في عـدن.. أطلال تبكي ضياع التاريخ (1)..تعرض المتحف لفقدان عملات ذهبية نادرة بعضها تعود إلى ألفي عام

> قسم التحقيقات/ جهاد محسن:

> ماذا لو جاء من يريد سرقة ما في جيبك.. أو حاول ازدراء كرامتك، ولم تجد من ينصفك أو يحمي آدميتك ؟، لاشك أن ذلك سيولّد في نفسك شعوراً بالنقمة على واقعك المعاش، لكن، كيف لو كان الأمر يتعلق بسرقة التاريخ ومسح هوية مدينة؟ فإن الأمر بالطبع سيولد سخطاً عاماً يصعب إسكاته.
فمدينة عـدن التي عُرفت على مدى أزمنتها الطويلة كمدينة جامعة لكل الأجناس والأعراق، وحاضنة لكل الثقافات والفنون، وكانت نبراساً للفكر والتنوير، ومكتنزاً للآثار النفيسة القيمة، والمتاحف المتنوعة العتيقة، التي ظلت لعقود طويلة تحكي عصور النهضة والحضارة كدلالات ارتبطت مكوناتها بالتربة والهوية والانتماء، تتعرض اليوم إلى شطب لمعالمها وأعلامها، وطمس لمآثرها وأثارها، ونهب لكل ما يتعلق بمكونات تاريخها وحضارتها، يكشف بقرائن لا تقبل التأويل على وجود نوايا خافية لا تريد لعـدن أن تنهض كواجهة ثقافية حضارية تؤدي وظيفتها الريادية، بعد أن سعت قوى الحرب المنتصرة في مايو/آذار 1994م، إلى تجريدها من كل مقوماتها ومؤسساتها العامة، وإخضاع أراضيها وكنوزها الأثرية لحسابات الفيد والانتفاع الشخصي.
مكاتب المتحف
مغلقة بالشمع الأحمر
مكاتب المتحف مغلقة بالشمع الأحمر
في كل بلدان ومجتمعات العالم، حينما تدلف إلى متاحفها التاريخية ومراكزها الأثرية تتمالكك مشاعر من الدهشة والذهول، وتجد نفسك مشدوداً للوقوف بشموخ وإجلال أمام عظمة التاريخ الذي يسرد حكاية تلكم الشعوب الموثقة لنفسها أهم أزمنتها ومراحلها الغابرة والحديثة، والتي جعلت من إرثها وتراثها نشيدان يعبران عن حضارة عريقة وثقافة راقية، تستشف معها رائحة التاريخ المفعم بالشواهد والصور الحية، ناهيك عن القداسة والمكانة السامية التي تحتلها المتاحف والمواقع الأثرية لدى الأنظمة والحكومات العربية والغربية، والتي تعتز بكل مخطوطة أو قطعة أثرية مهما كان حجمها كجزء من هوية قومية لا يمكن التفريط بها أو المساومة عليها.
* زيارة إلى (الأطلال)
أثناء زيارة سريعة قامت بها «الأيام» إلى متحف هيئة الآثار في عـدن، حيث يشمخ القصر السلطان العبدلي العتيق بمنطقة كريتر التاريخية، والمعمدة مداميكه وجدرانه منذ عام 1912م، حسب مصادر بحثية، وما يزال حتى اليوم يضاهي بشموخه عراقة التاريخ، ويبرهن بتصاميمه الهندسية عبقرية فن العمارة اليمنية.
دلفنا البوابة الرئيسية للمتحف مشدودين إلى رؤية شيء من بقايا حضارة، وللتعرف على آثار ومكتنزات مازلنا نجهل عنها الكثير، لكن كل ما وجدناه كان أشبه بصعقة تلقيناها ، فالمبنى يخلو من أبسط مكوناته الأثرية والتاريخية، لدرجة أنه يخيل لنا أننا قصدنا مبنى لا علاقة لها بتوثيق أهم حقب ومراحل مدينة عـدن وماجاورها من مدن ومناطق يمنية جنوبية.
وعند سؤالنا عن سبب خلو المتحف من الكنوز والقطع الأثرية النادرة، أجاب القائمون عليه: "إن المتحف تم تجريده من محتوياته، وإنه تم التحفظ على بعض مقتنياته في (البنك المركزي) أثناء الأزمة السياسية التي شهدتها البلاد عام 2011م".
تجولنا سريعاً داخل المبنى ووجدنا أوضاعا مهملة ومهجورة، حيث أن هناك إهمال يشهده المبنى من الداخل، فالجدران الداخلية مشوهة وتحتاج إلى ترميم وطلاء، وكذلك أرضيته مهترئة بحاجة إلى رخام يتوافق مع معايير بناء المتاحف الدولية ووفق تصاميم ذات مدلولات أثرية.
المتحف خالٍ من
الآثار و التحف
المتحف خالٍ من الآثار و التحف
وعندما دلفنا إلى (قسم الآثار) علّنا نرى ولو قطعة أثرية معروضة تحاكي عظمة تاريخنا، لم نجد غير صناديق زجاجية جميعها خالية من محتوياتها بلا قطع وبلا كنوز وبلا دلالات تاريخية- وبحسب كلام العاملين، فإن جميع القطع والكنوز الأثرية الخاصة بالمتحف، جرى نقلها أثناء أزمة فبراير 2011م، على متن عربات نقل خاصة، بعضها ذُهب بها إلى البيوت الخاصة، وأخرى جرى إيداعها كأمانة مؤقتة في البنك المركزي، حتى يتم معالجة أوضاع المتحف وحل المشكلات الإدارية فيه، لاسيما في ظل إصرار القيادة السابقة بوضع العراقيل برفضها تنفيذ إجراءات (التسليم والاستلام) عبر محاضر رسمية للقيادة الجديدة المكلفة بموجب سلسلة مذكرات وقرارات تنفيذية.
أردنا التقاط صور لأقسام المتحف التي تخلو تماماً من أية مكتنزات تاريخية وقطع أثرية، كدلالة إثبات شاهدة على مدى الفراغ والضياع الذي يعتري المتحف الوطني في عـدن، لكن إحدى موظفات المتحف حالت دون قيامنا بذلك، وطلبت منا الإذن من المدير العام، والذي بدوره أراد تبرير أسباب المنع باحتياطات أمنية تتعلق بقواعد وقوانين المتاحف، وهو ما جعلنا نحبس أنفاسنا ونكتم رغبتنا للضحك، حين منعنا من تصوير غرف خالية من الحياة، وأطلال خاوية على عروشها لاسيما والتساؤل هنا.. أين كانت تلكم الاحتياطات الأمنية حين كانت كنوز عـدن تسرب وتسرق من الداخل؟
لكن تبقى أكثر الأمور التي رأيناها غرابة ومدعية للريبة، هي أن عددا من الأروقة والأقسام والمكاتب الداخلية بالمتحف، مغلقة منذ أشهر بـ(الشمع الأحمر) من قبل الإدارة السابقة، والتي تصرفت كما لو كانت صاحبة الحق أو الجهة القضائية المخولة القيام بذلك، والسبب لا يعلمه إلا الراسخون في علم الغيب.
* سرقة التاريخ
ليس من السهل أن تقبل دولة أو حكومة أن تتعرض كنوز ومحتويات إحدى متاحفها للفقدان والسرقة، لأن ذلك يعد من منظورها جريمة مرتكبة بحق الهوية والسيادة الوطنية والقومية، أقل عقوبتها الإعدام .
لكن في ـاليمن- كل شيء قابل للسلب والاستباحة حتى لو كان الأمر يتعلق بسرقة التاريخ برمته، وطمس كل معالمه ومكوناته، طالما لا توجد رقابة ومحاسبة فورية تحمي آثارنا ومعالمنا من النهب والتدمير.
وما حدث للمتحف الوطني في عـدن، يعطي دلالة واحدة من دلائل كثيرة على أن ما تتعرض له مدينة عـدن يندرج ضمن سياسة ممنهجة تتعمد تجريد المدينة من تاريخها وهويتها.
حيث كشف بلاغ صادر عن (الهيئة العامة للآثار والمتاحف) في عـدن، يوم 14/4/2009م، مقيد في سجلات أمن عـدن، عن فقدان بعض المقتنيات الأثرية النادرة من داخل أروقة المتحف الوطني للآثار بالمحافظة، طبقاً لتقرير رئيس لجنة الجرد للمقتنيات الأثرية، أثناء القيام بإجراءات المطابقة لما هو موجود في السجل العام من أصول ثابتة للدولة، والقطع الأثرية، والبطاقات العلمية.
صور لعملات
صور لعملات
وأظهر تقرير اللجنة، أن المتحف تعرض لفقدان كامل لألبوم الخاص بالعملات الذهبية (الأكسومية- الرومانية)، وفقدان بعض القطع الأثرية القيمة، كما تعرضت السجلات العامة للأصول الثابتة والقطع الأثرية، وغيرها من الأمور الفنية الدقيقة للشطب والكشط والتغيير بوسائل مخالفة لما هو متعارف عليه في النظام المتحفي.
وبناءاً على ذلك فقد جرى كتابة إقرار من قبل المدير الأسبق للمتحف الوطني للآثار (أمين المتحف) بفقدانه لهذه العملات الذهبية من الخزانة الفولاذية، ولبعض القطع الأخرى من المستودع العام، وهو ما يحمله كامل المسؤولية بحكم أن كافة محتويات المتاحف والمستودع كانت في عهدته وبحوزته، بحسب النظم المتعارف عليها، وبحسب ما ورد في البلاغ.
وبالرغم من أن البلاغ الذي وزع نسخة منه إلى كل من محافظ محافظة عـدن، ومدير الجهاز المركزي للأمن السياسي، ورئيس الهيئة العامة للآثار والمتاحف، وطالب بسرعة اتخاذ الإجراءات، إلا أن مصير تلكم العملات والقطع المفقودة لا تزال في طيات الغيب،وبحسب إفادة مدير عام المتحف، محمد سالم السقاف، فإن عدد العملات الذهبية المفقودة، تقدر بنحو 1192 عملة، منها 68 عملة (أكسومية) و 1124 عملة (رومانية)، وتقدر القيمة التاريخية للعملات (الأكسومية) والخاصة بموقع (المضاربة) في محافظة لحج، بنحو ألفـي عام، فيما تقدر القيمة التاريخية للعملات (الرومانية) الخاصة بموقع (الطرية) بمحافظة أبين، ما بين 500 إلى 600 سنة.
وعندما أردنا مشاهدة صورا ونماذجا فوتوغرافية عن العملات المفقودة، أوضح القائمون على شؤون المتحف،: "بأن الألبوم المصور لهذه العملات، مازالت بحوزة المديرة السابقة، وأنها تحتفظ بها حتى الآن"، حد كلامهم.
* مرجعية العملات المنهوبة
يرجع تاريخ بعض العملات الذهبية (الأكسومية-الرومانية) والمفقودة من خزانة المتحف، إلى فترة ما بين القرن الخامس والقرن السادس، حسبما وثقه (ستيوارت مونرو) في أبحاثه العلمية التاريخية عن العملة النقدية.
حيث تشير المراجع التاريخية التي وردت تحت عنوان (العملة النقدية في الإمبراطورية الحميرية) إلى أنه بات من المؤكد أن (سبأ وحضرموت) قد كفت عن سك العملة النقدية في نهاية القرن الثالث تقريباً، بعد أن كان تداول القطع السابقة مستمراً منذ زمن طويل في مختلف المناطق، إلا أنه من أجل بعض الاستعمالات، لاسيما من أجل التجارة مع الهند والاحتفاظ بالمال الضروري، استخدمت (حمير) عملات نقدية أخرى.
وبحسب المراجع فإن الدلالة الممكنة على هذه الظاهرة هو الاكتشاف المتواتر لعملات من أكسوم (الحبشة القديمة) في جنوب الجزيرة العربية، فغالبية القطع النقدية كانت من الذهب، إلى جانب عدد قليل من القطع الفضية للملك (إبانا من أكسوم) في القرن الرابع، والتي عثر عليها في شبوة، وبعض القطع النحاسية اكتشفت في قنأ في حضرموت،وكثير من هذه القطع كانت مثقوبة شأنها شأن الكثير من العملات الذهبية الرومانية المستخرجة في الهند، وقطع أخرى أتت من كنوز نقدية خبئت فيما بعد في زمن الحرب بين الملك (كالب من أكسوم)، وملك اليمن خلال سنة 520م، وربما كانت مجموعة من هذه العملات قادمة من مخبأ واحد، فهي مؤرخة جميعها بمنتصف القرن الرابع إلى القرن السادس، أي من الفترة التي تفصل بين الملك (عيزانا) والملك (كالب).
أما أكثر العملات الذهبية الأكسومية إدهاشا -حسب المراجع- فهو كنز (المضاربة) الذي عثر عليه على مسافة 70 قدم كلم، غربي عـدن، فعددها كان 868 قطعة نقدية أكسومية والتي كان قد أصدرها الملوك، بدءاً من الملك (عيزانا) وحتى الملك (كالب)، وقد اكتشف أيضاً في الحبشة عددا كبير من القطع التي تعود أصولها إلى ممالك جنوب الجزيرة العربية، ولكن أياً من هذه الاكتشافات لم يعثر عليها ضمن ظروف أثرية لم تسمح بتحديد التاريخ بشيء من الدقة، ويبدو أنها تعود إلى الفترة الأخيرة من العملات العربية الجنوبية، باعتبار أن (شكل الرأس) كان النمط الأكثر تقديماً آنئذ.
وثمة إشارة توجزها المصادر التاريخية في رسالة الشهداء maryrion لحارثة Arethas تنطوي على إسناد غير مباشر للعملات المتداولة في الإمبراطورية الحميرية، فهي تذكر أنه في القرن السادس كان يمكن التعبير عن وزن الذهب بمفردات وحدات العملة، ولما كان الاستناد على كل حال قائماً على عملات سابقة من العملات المستخدمة آنئذ، فلابد من أن الاستناد يخص بالأحرى قطعة ذهبية أكسومية، فقد استمرت هذه القطع في التداول خلال أكثر من قرنين، وكانت تتواجد بكثرة في جنوب الجزيرة العربية،والواقع أنه تم اكتشاف عدداً كبيراً من هذه القطع في جنوب الجزيرة العربية، أكبر من العدد الذي تم اكتشافه في الحبشة ، فكنز (المضاربة) وحده زاد من عدد القطع المعروفة حتى اليوم بثلاثة أضعاف، حسب ذكر المراجع.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى