عـدن بـيـن الأمـس والـيـوم .. مـاض تـلـيـد وحـاضـر بــائــس

> رصد / نوارة قمندان

> عرفت مدينة عدن منذ القدم بالريادة في مجالات متعددة بين شعوب المنطقة والعالم، لاسيما في عالم المسرح والسينما، إذ احتلت بذلك مرتبة الريادة على مستوى دول الخليج والجزيرة العربية، الريادة هذه لم تقتصر في هذه المدينة على الفن السابع وغيره من الفنون، بل عرف عنها التحضر والتمدن والتسامح الديني، والتطور التعليمي، ووفرت الخدمات الصحية وغيرها، وهو ما جعلها مقصدا ومحط إعجاب الكثير من الأدباء والفنانين والمثقفين وغيرهم.
اليوم مدينة عدن لم يتبق منها سوى اسمها ليدل عليها، بعد أن طال مخطط طمس الهوية الممنهج جميع مناحيها الثقافية والتاريخية والأثرية، ومختلف مجالاتها الخدمية، لتضحى عدن اليوم تبكي ماضيها التليد لعلها بنوحها تخفف عن نفسها ما حل بها وبتاريخها الذي كانت تفتخر به إذا ما تنافس المتنافسون بثقافاتهم.
عرفت عدن منذ بداية القرن الماضي المديد حياة التمدن والتحضر والتطور في مجالات عدة لاسيما في مجال الأدب والفن والمسرح، ففي عام 1925م تأسس النادي الأدبي العربي برئاسه الأمير أحمد فضل القمندان للحركة الثقافية والأدبية والفنية في عدن.
لقد شكلت مدينة عدن بفضل موقعها الاستراتيجي والتجاري مركزاً هاماً وتنشيطها وتطويرها بالإضافة إلى التبادل الثقافي والسياسي مع القادمين إلى المدينة من عدد من الأقطار والبلدان، الأمر الذي مكنهم من القيام بالنشاطات الثقافية والأدبية وتشكيل النوادي الثقافية كنادي الإصلاح العربي الإسلامي والذي تأسس عام 1929م، ومخيم ابن الطيب، حلقة شوقي، نادي يعرب بن قحطان، وغيرها الكثير كما ظهرت إلى جانب تلك النوادي الثقافية أيضاً الجمعيات الأهلية والنوادي القروية، وقد وصل عدد تلك النوادي والجمعيات إلى 28 ناديا وجمعية، الأمر الذي ساهم إلى حد كبير في دعم نشاط حركة الأحرار في تلك الفترة من خلال إلقاء المحاضرات والخطب والقصائد والمواعظ الدينية، بالإضافة إلى معالجة هموم ومشاكل المواطنين.
وعن ما شهدته هذه المدينة من نهضة في تلك المرحلة في شتى المجالات قال الكاتب الكبير نجيب محمد اليابلي وهو أحد أبناء عدن: “إذا تحدثنا عن ماضي عدن يعني أننا نتحدث عن نموذج مشرف لدولة النظام والقانون على مستوى الشرق الأوسط، وفي حال وضعنا عدن في ميزان المقارنة والمفاضلة بينها وبين دول الخليج فسنجد بأن دول الخليج لم تعرف النهضة إلا بعد الطفرة البترولية في 1973م، فضلاً عن كون هذه المدينة قد عرفت منذ القدم بمدينة التسامح الديني، نتيجة لتعدد الديانات والعرقيات فيها، وتشكلت في تلك الفترة ثقافة تسمى بالثقافة المدنية والتي انعكست إيجابياً على تصرفات وسلوكيات أبناء هذه المدينة، وهو ما جعل القانون فوق الجميع”.
الكاتب نجيب اليابلي واصل حديثه عن تحضر هذه المدينة وما عرفت به في الماضي وما حل بها في الوقت الحاضر من إهمال وتهميش وطمس بالقول: “مع الأسف الشديد بعد قيام الوحدة في 22 مايو 1990م الكل ساهم في القضاء على القانون بمن فيهم الجنوبيون أنفسهم”.. وأرجع اليابلي ذلك إلى عدم وجود التخطيط السكاني والتخطيط الحضاري اللذين يعملان على تنظيم المدينة وهو ما جعل منها ملكاً للجميع”.
واختتم كلامه بالقول: “نحن بحاجة كبيرة إلى صحوة وتفعيل للعقول التي باتت في إجازة إجبارية”.
**المسرح في عدن**
تُعد عدن أول مدينة عرفت العروض المسرحية في منطقة الجزيرة العربية، حيث بدأ العمل المسرحي فيها بعروض هندية في المدارس عن طريق الفرق الهندية الاستعراضية منذ عام 1904م، تلاها قيام بعض الفرق الفنية بتجسيد التراث العربي واليمني على بعض المسارح البدائية، ثم أخذ الميل إلى المسرح يتصاعد، إلا أنه لم يصل إلى المستوى اللائق إلا في مرحلة الستينيات من القرن الماضي.
ومن أبرز المسرحيات التي قدمت في العقد الأول من القرن الماضي مسرحيتان قدمتهما الفرقة الهندية عام 1908م وذلك في حفل افتتاح، الأولى باسم “خذاحق” ومعناها “الله حق” والثانية باسم “شري وفرحان” والأخيرة تكاد أن تكون صورة من القصة العربية الشهيرة “قيس وليلى”، وأقيمت على خشبة مسرح في بناية قهوجي المعروفة في عدن.
أما أول مسرحية يمثلها ويشاهدها العدنيون مترجمة إلى العربية كانت في عام 1910م.
وفي مرحلة الحرب العالمية الأولى أصيب المسرح في هذه المدينة بشلل من 1912م - 1920م، وهو ما خلق نوعاً من الإرهاصات على حركة المسرح في هذه الفترة، وكذا فترة الحرب العالمية الثانية.. وعن هذه المرحلة قال الفنان المسرحي محمود أربد: “إن الحركة المسرحية في عدن بعد الحرب العالمية الثانية توقفت إلا بعض الأعمال المتواضعة”.
**أول مسرح في عدن**
السينما باتت شيء من الماضي
السينما باتت شيء من الماضي

يعود تاريخ إنشاء أول مسرح في عدن إلى عام 1954م وذلك برئاسة “جملة شاه” حيث أقامت هذه الفرقة مسرحاً خاصاً في البناية التي اشتهرت فيها باسم “سينما مستر حمود”، قدمت الفرقة مسرحية تاريخية باللغة الهندية نالت إعجاب جمهور المشاهدين.. وفي فترة الكفاح المسلح توقف النشاط المسرحي باستثناء ما يقدمه التلفزيون حتى عام 1968م حيث قدم أول نص بعد الاستقلال في ملعب الحبيشي بعدن باسم شهيد الوطن.
كما شهدت هذه المدينة عددا من الأعمال المسرحية والمسارح والسينما والتي جعلتها تحتل الريادة في هذا المجال على مستوى الجزيرة العربية، وذلك لارتباط هذا الفن ارتباطاً وثيقاً بحياة ووجدان أبناء عدن كسينما بلقيس وأروى وهريكن والسينما الأهلية وأخرى اتخذت اسم المكان الذي تقيم فيه كسينما المعلا والبريقة والتواهي وغيرها.
ويعود احتضان هذه المدينة لهذا الفن بشكل مبكر إلى عدة أسباب أبرزها الوجود المبكر للتعليم النظامي، واختلاط السكان بغيرهم من الوافدين من البلدان الأخرى إليهم، وغيرها من الأسباب التي أدت إلى تطور هذا الفن، كما أدى الاحتكاك بالعلم عن طريق الحركة التجارية إلى ظهور السينما مبكراً.
وبهذا تكون مدينة عدن رائدة الحركة المسرحية ليس في اليمن بل في الجزيرة والخليج بشكل عام.
**نجوم المسرح**
في فترة ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي شهد المسرح في عدن بروز عدد من نجوم المسرح والحركة المسرحية كعبدالرحيم خان، مستر حمود، أحمد محمد آل يعقوب، محمد عبدالرحمن مكاوي، أحمد سعيد الأصنج، علي الجرش، عباد محمد جعفر، علي صالح مسيبلي، محمد علي لقمان، محمد أحمد حيدرة وغيرهم الكثير.
**المسرح بين الأمس واليوم**
على الرغم مما تحمله هذه المسارح ودور السينما من قيمة تاريخية وثقافية للمدينة والدولة بشكل عام، إلا أنه جرى القضاء عليها ومبانيها بطريقة غير حضارية، فما حل بمبان المسرح والسينما في هذه المدينة يندرج ضمن خطة الطمس والتهميش المتعمد الذي اتبعه نظام صنعاء منذ تسعينات القرن الماضي.
ويعد المسرح العمالي التابع لاتحاد النقابات بعدن واحداً من المسارح التي نالها المخطط الهادف إلى طمس المعالم الأثرية والتاريخية في محافظة عدن، حيث طال المبنى المسرحي هذا أعمال هدم وتخريب وعبث في ممتلكاته التي قامت على نفقات العمل الخاصة، بالإضافة إلى السطو على ساحته والقيام بأعمال بناء عشوائية قوبلت بتجاهل من قبل السلطة المحلية.
أعمال التخريب والطمس والتهميش والتجاهل هذه لم تقتصر على هدم بناء هذا المسرح بل طالت جميع مبان المسارح والسينما في المدينة.
**الفن والشعر بعدن**
لقد ظهرت في مدينة عدن في خمسينيات القرن الماضي الموسيقى وفيها لعبت دوراً كبيراً في تحديث الغناء في عدن، وهو ما جعلها تكتسب سمعة فنية كبيرة في بداية الستينيات على مستوى الخليج والجزيرة العربية، الأمر الذي جعل بعض الأثرياء في عدن يحضرون بعض الفنانين العرب لزيارة عدن وإقامة الحفلات الغنائية فيها أمثال: فريد الأطرش، محرم فؤاد، ماهر العطار، شفيق جلال، محمود شكوكو، وآخرين.
لم يقتصر إبداع أبناء عدن على الفن وحسب في تلك الفترة بل نضج أبناؤها أيضاً في الأدب والشعر بمختلف ميادينه حيث برعوا في جوانب عدة كالجانب القصصي والجانب الغنائي والاجتماعي والسياسي والموضوعي، ومن أبرز الشعراء في تلك المرحلة الأستاذ محمد عبده غانم، علي محمد لقمان، لطفي جعفر أمان، عبدالمجيد الأصنج، محمد سعيد جراده، محمد حسن عوبلي، أحمد حامد الجوهري، علي عبدالعزيز وآخرون.
وعن أسباب التراجع في هذا المضمار في الوقت الراهن في مدينة عدن قال أنس عوض التميمي وهو شاعر صاعد: “إن الركود والتراجع الكبير في الجانب الأدبي والفني في عدن عائد إلى عدم اهتمام وزارة الثقافة بالواجب الثقافي نحو مدينة عدن، في مختلف مجالاته سواء أكان الشعر أو الغناء أو الرسم أو المسرح، وغيرها من الإبداعات الفنية والأدبية والثقافية، بالإضافة إلى تدهور المجال الأدبي بشكل عام نتيجة لعدم توفير الاحتياجات والمتطلبات الفنية والأدبية الخاصة بها.
**آراء مواطنين**
عدد من مواطني مدينة عدن ممن عاشوا مراحل وفترات مختلفة عبروا عن الاختلاف الكبير بين عدن الماضي التي شهدت فيها ازدهاراً ليس في مجال الثقافة والفن والمسرح والتي كانت فيه الرائدة على مستوى الوطن العربي، بل إن الريادة والتطور شمل مجال التعليم والصحة والرياضة ومختلف مناحي الحياة، والتي جعلت عدن محط إعجاب ومقصد العديد من رواد الفن والفكر والثقافة وغيرهم من البلاد العربية والأجنبية، وبين حاضر لا يحمل من سمات الريادة والتميز شيئا بل على العكس تماماً.
**إهمال للإبداع والمبدعين**
الفنون الجميلة هي الأخرى نالها نصيب من هذا الإهمال المتعمد من قبل السلطة، وعن هذا يقول الدكتور محمد عبده دائل رئيس قسم الفنون الجميلة في كليه الآداب بجامعة عدن: “كان لعدن السبق الريادي في مجال الموسيقى في القرن التاسع عشر، وأكمل المجال الريادي هذا الكثير من الفنانين في القرن العشرين من بينهم أحمد قاسم، ومحمد مرشد ناجي، وغيرهما الكثير ممن قاموا بالتجديد في هذا المجال”.
وأضاف: “بعد الوحدة لم يهتم أحد بالفنون الجميلة ألبتة، رغم ما يشكله هذا الفن من تكوين الفكر الثقافي والسياسي المتنور والصحيح، بالإضافة إلى التنمية الاقتصادية والعلمية وغيرها”.
خاتماً بالقول: “لقد تم في العام الماضي افتتاح قسم للفنون في كلية الآداب لنخبر الجميع بأن عدن ستظل نموذجاً في التطور والرقي ومنبراً للفكر والثقافة والفن”.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى