الغربة والاغتراب في الشعر العربي قديمًا وحديثًا (1 - 2)

> أ/ طاهر العتباني

> **مفهوم الغربة والاغتراب عبر العصور الأدبية لدى شعراء العربية:
لقد ظلَّ مفهوم الغربة يتردَّد صَداه عند كثيرٍ من الشُعراء المُسلِمين على مَدار التَّاريخ الإسلاميِّ كلَّما حلَّت نكبةٌ، أو وقعَتْ واقعةٌ يَشْعر فيها الشَّاعر المسلِمُ بالوحشة والغُربة، فيعزف على أوتار شِعرِه مُصوِّرًا حاله أو حال أمَّتِه إبَّان نَكْبة من النَّكبات، أو مُلِمَّة من الملمَّات.
ونضرب هنا أمثلةً نُدلِّل بها على امتداد هذه الرُوح وهذه الرّؤية لمفهوم الغربة في شِعْرنا القديم؛ تأكيدًا وتَمثيلاً لهذه الرُؤية الشعريَّة والفَنِّية في الشِّعر الإسلامي، ومن ذلك أبياتُ مالك بن الريب التَّميمي التي كتَبَها يَرْثي بها نفْسَه، ويشكو غربتَه وهو يَموت غريبًا وحيدًا؛ حيث لا يَراه أهلُه ولا أبناؤه، بل يفرد في الصَّحراء غريبًا وحيدًا، يقول مالك بن الريب التميميّ في قصيدته تلك:
يَقُولُونَ لا تَبْعُدْ وَهُمْ يَدْفِنُونَنِي
وَأَيْنَ مَكَانُ البُعْدِ إِلاَّ مَكَانِيَا
غَدَاةَ غَدٍ يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى غَدٍ
إِذَا أَدْلَجُوا عَنِّي وَخَلَّفْتُ ثَاوِيَا
وَأَصْبَحَ مَالِي مِنْ طَرِيفٍ وَتَالِدٍ
لِغَيْرِي، وَكَانَ الْمَالُ بِالأَمْسِ مَالِيَا (1)
وكذلك قصيدة ابن زُرَيق البغداديِّ الَّتي تحدَّث فيها عن غُربته في بلاد الأندلُس بعد أن تركَ بغداد طلَبًا للرِّزق ومات غريبًا بالأندلس بعد أن ترك قصيدة هي من عيون الشِّعر العربي، يقول في أوَّلِها مخاطِبًا زوجته بعد أن ألَمَّ به المرض وأقعدَه، وشعر بِدُنوِّ أجَلِه:
لاَ تَعْذِلِيهِ فَإِنَّ العَذْلَ يُولِعُهُ
قَدْ قُلْتِ حَقًّا، وَلَكِنْ لَيْسَ يَسْمَعُهُ
جَاوَزْتِ فِي لَوْمِهِ حَدًّا أَضَرَّ بِهِ
مِنْ حَيْثُ قَدَّرْتِ أَنَّ اللَّوْمَ يَنْفَعُهُ
فَاسْتَعْمِلِي الرِّفْقَ فِي تَأْنِيبِهِ بَدَلاً
مِنْ عَذْلِهِ، فَهْوَ مُضْنَى القَلْبِ مُوجَعُهُ
إلى أن يقول في بعض أبياتها:
أَسْتَوْدِعُ اللهَ فِي بَغْدَادَ لِي قَمَرًا
بِالكَرْخِ مِنْ فَلَكِ الأَزْرَارِ مَطْلَعُهُ
وَدَّعْتُهُ وَبِوُدِّي لَوْ يُوَدِّعُنِي
صَفْوُ الْحَيَاةِ وَأَنِّي لاَ أُوَدِّعُهُ (2)
وهو على مدار القصيدة يَشْكو حالَه، ويَصِف غربتَه بعيدًا عن داره وأهله.
وعلى مستوى الغربة الشخصيَّة التي عبَّر عنها شعراء العربيَّة على مدار تاريخ الشِّعر العربي، نَجِد أبيات المتنبِّي التي يَشْكو فيها غربتَه بِمِصر بعد أنْ ترَكَ بلاط سيف الدَّولة الحمداني، الذي كان بالنِّسبة إلى المتنبِّي بِمَثابة البطَل الذي يقتحم الملمَّات، ويُنكِّل بالأعداء، ثُم ها هو ذا المتنبِّي يلمّ به المرَضُ مع غُربته وانفراده بِمِصْر دون صديقٍ أو أنيس أو سميرٍ يُواسيه ويُخفِّف بعضًا من هذه الغربة، يقول المتنبِّي مُخاطِبًا الحُمَّى:
أَبِنْتَ الدَّهْرِ عِنْدِي كُلّ بِنْتٍ
فَكَيْفَ وَصَلْتِ أَنْتِ مِنَ الزَّحَامِ
جَرَحْتِ مُجَرَّحًا لَمْ يَبْقَ فِيهِ
مَكَانٌ لِلسّيُوفِ وَلا السِّهَامِ
وفي أبياته التي هَجا فيها كافورًا الإخشيديَّ يبدأ القصيدة بذِكْر غُربته وبُعده عن أحبَّتِه - في دولة الحمدانيِّين - ويمرّ العيد وهو كاسِفُ البال حزين:
عِيدٌ، بِأَيَّةِ حَالٍ عُدْتَ يَا عِيدُ
بِمَا مَضَى؟ أَمْ لِأَمْرٍ فِيكَ تَجْدِيدُ؟
أَمَّا الأَحِبَّةُ فَاْلبَيْدَاءُ دُونَهُمُ
فَلَيْتَ دُونَكَ بِيدًا دُونَهَا بِيدُ (3)
على أنَّ أعظم الغربة على المستوى الفرديِّ حينما يقع المسلِمُ أسيرًا في أيدي الأعداء، يُحيطون به من كلِّ جانب، فيحمل هَمَّيْن: همَّ الغربة في المكان، وهم الغربة في الزَّمان، لقد وقع أبو فراسٍ الحمدانيّ أسيرًا في أيدي الأعداء، فكتب قصيدته التي يُخاطب فيها سيفَ الدولة راجيًا إيَّاه العملَ على فَكِّ قيدِه وفدائه من الأَسْر، ومُتذكِّرًا أُمَّه، مُناجيًا إيَّاها في غربته:
يَا حَسْرَةً مَا أَكَادُ أَحْمِلُهَا
آخِرُهَا مُزْعِجٌ وَأَوَّلُهَا
إلى أن يقول:
يَا أُمَّتَا هَذِهِ مَنَازِلُنَا
نَتْرُكُهَا تَارَةً وَنُنْزِلُهَا
يَا أُمَّتَا هَذِهِ مَوَارِدُنَا
نَعَلّهَا تَارَةً وَنَنْهَلُهَا
أَسْلَمَنَا قَوْمُنَا إِلَى نُوَبٍ
أَيْسَرُهَا فِي القُلُوبِ أَقْتَلُهَا (4)
وإذا كانت الغربةُ على المستوى الفرديِّ تشكِّل كلَّ هذا الهمِّ والحزن؛ فإنَّها على المستوى الجماعيِّ تكون أشدَّ وقْعًا على النَّفْس، وقد عرف في التاريخ الإسلاميِّ ما سُمِّي برثاء المدُن، وهو نوعٌ من الشِّعر عبَّرَ أصحابُه من الشّعراء عن النكبات التي أصابَت الأُمَّة الإسلامية والمِحَن التي حاقَتْ بها، فأصبح أبناؤها المُخْلِصون يعيشون عيشَ الغُرباء، وينكل بهم وتراق دماؤهم، وتُهتَك أعراض نسائهم، وتُدمَّر البيوت، وتهدم المساجد، وتتكالب النكبات القاسية والشدائد العظيمة على الأُمَّة، وكذلك عندما يُقتل عظيمٌ من عظماء الأمَّة، أو بطَل من أبطالها كان يُمثِّل لها أملاً، ويعقد عليه الرَّجاء.
ونضرب هنا بعضًا من الأمثلة التي توضِّح جانِبًا من هذا الموضوع:
من ذلك أبياتٌ لشمس الدِّين الكوفي بعد سُقوط بغداد في أيدي التَّتار، والَّتي يصف فيها حالَ المسلمين في بغداد وحولها، وما فعل التَّتار من سفكٍ للدِّماء وتحريقٍ للبيوت والدور والمساجد، يَقول:
مَا لِي وَلِلأَيَّامِ شَتَّتَ خَطْبُهَا
شَمْلِي وَخَلاَّنِي بِلا خِلاَّنِي
مَا لِلمَنَازِلِ أَصْبَحَتْ لاَ أَهْلُهَا
أَهْلِي وَلا جِيرَانُهَا جِيرَانِي
أَيْنَ الَّذِينَ عَهِدْتُهُمْ وَلِعِزِّهِمْ
ذُلاً تَخِرّ مَعَاقِدُ التِّيجَانِ (5)
ومِن ذلك قصيدة أبي البقاء الرّندي، في نَكْبة الأندلس المروِّعة، والَّتي مطلَعُها:
لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ
فَلاَ يُسَرَّ بِطِيبِ العَيْشِ إِنْسَانُ
وفيها يَصِف حال المسلمين في الأندلس، فيقول:
دَهَى الْجَزِيرَةَ أَمْرٌ لاَ عَزَاءَ لَهُ
هَوَى لَهُ أُحُدٌ وَانْهَدَّ ثَهْلاَنُ
أَصَابَهَا العَيْنُ فِي الإِسْلاَمِ فَارْتَزَأَتْ
حَتَّى خَلَتْ مِنْهُ أَقْطَارٌ وَبُلْدَانُ
تَبْكِي الْحَنِيفِيَّةُ البَيْضَاءُ مِنْ أَسَفٍ
كَمَا بَكَى لِفِرَاقِ الإِلْفِ هَيْمَانُ
عَلَى الدِّيَارِ مِنَ الإِسْلاَمِ خَالِيَةً
قَدْ أَقْفَرَتْ وَلَهَا بِالكُفْرِ عُمْرَانُ
حَيْثُ الْمَسَاجِدُ قَدْ صَارَتْ كَنَائِسَ مَا
فِيهِنَّ إِلاَّ نَوَاقِيسٌ وَصُلْبَانُ (6)
وقصيدة البحتريِّ في مَقْتل المُتوكِّل تُبْرِز لنا جانِبًا مِن غربة الأُمَّة حين يغيب القائدُ الذي يلمّ الله به الشَّمل، ويَعْقد به ألوِيَة النَّصر والمَجْد والتَّمكين، يقول البحتريّ في قصيدته:
وَلَمْ أَنْسَ وَحْشَ القَصْرِ إِذْ رِيعَ سِرْبُهُ
وَإِذْ ذُعِرَتْ أَطْلاَؤُهُ وَجَآذِرُهْ
وَإِذْ صِيحَ فِيهِ بِالرَّحِيلِ فَهُتِّكَتْ
عَلَى عَجَلٍ أَسْتَارُهُ وَسَتَائِرُهْ
وَوَحْشَتُهُ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يُقِمْ بِهِ
أَنِيسٌ وَلَمْ تَحْسُنْ لِعَيْنٍ مَنَاظِرُهْ
كَأَنْ لَمْ تَبِتْ فِيهِ الْخِلاَفَةُ طَلْقَةً
بَشَاشَتُهَا وَالْمُلْكُ يُشْرِقُ زَاهِرُهْ
وَلَمْ تَجْمَعِ الدّنْيَا إِلَيْهِ بَهَاءَهَا
وَبَهْجَتَهَا وَالعَيْشُ غَضٌّ مَكَاسِرُهْ
كذلك عانى المسلمون ما عانَوْا من جرَّاء الحروب الصليبيَّة التي استمرَّتْ مدة طويلة، فعلَ الصليبيّون ما فعلوا بالمُسلمين مِن قَتْلٍ وذَبْح وتشريدٍ مِمَّا وصَفَه بعضُ الشّعراء معبِّرًا عن مدى ما يُعانيه المسلمون من صَوْلة الكفر وعتُوِّه وظُلْمه وطغيانِه، يقول بعضُ شعراء ذلك العصر، واصِفًا تلك الحال:
أَحَلَّ الكُفْرُ بِالإِسْلاَمِ ضَيْمًا
يَطُولُ عَلَيْهِ لِلدِّينِ النَّحِيبُ
فَحَقٌّ ضَائِعٌ وَحِمًى مُبَاحٌ
وَسَيْفٌ قَاطِعٌ وَدَمٌ صَبِيبُ
وَكَمْ مِنْ مُسْلِمٍ أَمْسَى سَلِيبًا
وَمُسْلِمَةٍ لَهَا حَرَمٌ سَلِيبُ
وَكَمْ مِنْ مَسْجِدٍ جَعَلُوهُ دِيرًا
عَلَى مِحْرَابِهِ نُصِبَ الصَّلِيبُ
أَتُسْبَى الْمُسْلِمَاتُ بِكُلِّ ثَغْرٍ
وَعَيْشُ الْمُسْلِمِينَ إِذًا يَطِيبُ
أَمَا وَاللهِ لِلإِسْلاَمِ حَقٌّ
يُدَافِعُ عَنْهُ شُبَّانٌ وَشِيبُ
فَقُلْ لِذَوِي البَصَائِرِ حَيْثُ كَانُوا
أَجِيبُوا اللهَ وَيْحَكُمُ أَجِيبُوا (7)
والنَّماذج كثيرة، ولكن حسْبُنا ما ذكَرْنا من النَّماذج بيانًا لهذا المفهوم الذي عبَّر عنه القرآن، كما عبَّر عنه شعراءُ عصر النبوَّة، وكذلك ما تلاه من عصورٍ أدبيَّة حتَّى العصر الحديث.
(1) (جمهرة أشعار العرب): القرشي.
(2)(الوسيلة الأدبية): حسين المرصفي.
(3) (ديوان المتنبي).
(4) (ديوان أبي فراس الحمداني)
(5) (فوات الوفيات): ابن شاكر الكتبي.
(6) (نَفْح الطِّيب): المقري.
(7) (ديوان البحتري)

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى