الغربة والاغتراب في الشعر العربي قديمًا وحديثًا (2 - 2)

> أ/ طاهر العتباني

> **مفهوم الغربة والاغتراب عند شعراء العصر الحديث:
مع تَراجُع الخطِّ الحضاري للأمَّة الإسلامية، وافتقاد المسلمين مكانتَهم أمَّةً شهيدة على النَّاس بين أمم العالم المعاصر، وبُروز طائفةٍ من أبناء الأمَّة حاولَتْ جاهدةً أن تُعيد الأُمَّة إلى الحياة الحقيقيَّة بعد مدةٍ من الجمود، وإلى العزَّة الإيمانية بعد الذِّلة والهوان، وإلى التَّمكين بعد الاستِضْعاف، مع ذلك كلِّه واجهَتْ هذه الطائفةُ المؤمنة ظروفًا تشابَهَتْ مع ظروف الدَّعوة الإسلاميَّة في عهدها الأوَّل، فعاشوا غُرَباء في أوطانهم التي تراجعَت الحياة فيها عن الصّورة المُثْلَى التي تعيش في قلوبهم وصدورهم ونفوسهم، ويرَوْنَها ماثلةً في كتاب الله تعالى، ومجتمع المسلمين الأوَّل؛ كذلك عاشت هذه الطَّائفة عيشَ الغرباء في عالَمٍ سيطرَتْ عليه فلسفاتُ المادَّة، وهرطقات المتفلسِفين والمُتشدِّقين من مُفكِّري الغرب التَّائه، وأذنابه في ديار الإسلام.
كذلك عاشَتْ هذه الطَّائفة غرباء عندما ألجأَتْهم الظّروف السياسيَّة والاضطهاد العقائديّ إلى هِجْرة أوطانِهم، فكانَتْ غربةً أخرى، كما عاشوا غُرَباء وهم يَجُولون بِقُلوبهم وعقولهم ونفوسهم وأفكارهم في صَدْر الحضارة الإسلاميَّة التي حفظَتْ بُطونُ الكتب كثيرًا عنها، ومنها ما لا يزال ماثلاً للعيان في صمتٍ جريح وأسًى لاذع، يشهد أنَّ أمة عظيمةً كانت مِلْء سَمْع العالم وبصَرِه، ولكِنَّها تَحْيا الآن حالةً من التخلّف والجمود، والبُعْد عن الأَخْذ بالمنهج الإسلاميِّ كاملاً.
ونُشير هنا إشارةً سريعة إلى جوانِبَ مِن هذا المفهوم في الشِّعر الإسلامي الحديث عند شُعَراء النِّصف الأول من القرن العشرين.
لقد كانت غُرْبة الباروديِّ ونَفْيُه، وكذلك شوقي ونفيه إلى الأندلس - سببًا لكثيرٍ من قصائدهما حول الغُرْبة والاغتراب؛ مِمَّا يعدّ بُذورًا للحديث حول الغربة والاغتراب في الشعر العربيِّ والإسلامي الحديث، يقول الباروديّ:
كَفَى بِمَقَامِي فِي سَرَنْدِيبَ غُرْبَةً
نَزَعْتُ بِهَا عَنِّي ثِيَابَ العَلاَئِقِ
وَمَنْ رَامَ نَيْلَ العِزِّ فَلْيَصْطَبِرْ عَلَى
لِقَاءِ الْمَنَايَا وَاقْتِحَامِ الْمَضَايِقِ
إلى أن يقول:
يَقُولُ أُنَاسٌ أَنَّنِي ثُرْتُ خَالِعًا
وَتِلْكَ صِفَاتٌ لَمْ تَكُنْ مِنْ خَلاَئِقِي
وَلَكِنَّنِي نَادَيْتُ بِالعَدْلِ طَالِبًا
رِضَا اللهِ وَاسْتَنْهَضْتُ أَهْلَ الْحَقَائِقِ
أَمَرْتُ بِمَعْرُوفٍ وَأَنْكَرْتُ مُنْكَرًا
وَذَلِكَ حُكْمٌ فِي رِقَابِ الْخَلاَئِقِ (1)
كما كان نَفْيُ شوقي بالأندلس ومعاناتُه الغربةَ المكانية والزمانيَّة، سبَبًا لِما سُمِّي بأندلسيَّات شوقي، تلك القصائد التي يَعْزف فيها على وتر الغربة والاغتراب، ويبكي حال الأندلس الذَّاهب مَجْدُها، ويتأسَّى على حاله في غربتِه؛ يقول شوقي في سينِيَّته الشهيرة:
اخْتِلاَفُ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ يُنْسِي
اذْكُرَا لِي الصِّبَا وَأَيَّامَ أُنْسِي
وَصِفَا لِي مُلاَوَةً مِنْ شَبَابٍ
صُوِّرَتْ مِنْ تَصَوُرَاتٍ وَمَسِّ
ثُم ها هو يتجوَّل في الأندَلُس، ويتذكَّر مَجْدَها الذَّاهب، فيَزْداد غُربةً فوق غربة؛ فها هي آثارُ بني أميَّة صارَتْ غريبة في جوِّ الأندلس بعد أن خرَجَت من أيدي المسلمين، وظلَّت قصورُها وآثارها شاهدةً في حسرةٍ على المَجْد الإسلاميِّ الزَّاهر في هذه الدِّيار، يقول شوقي:
أَيْنَ (مَرْوَانُ) فِي الْمَشَارِقِ عَرْشٌ
أُمَوِيٌّ وَفِي الْمَغَارِبِ كُرْسِي؟
سَقِمَتْ شَمْسُهُمْ فَرَدَّ عَلَيْهَا
نُورَهَا كُلُ ثَاقِبِ الرَّأْيِ نَطْسِ
ثُمَّ غَابَتْ وَكُلّ شَمْسٍ سِوَى هَا
تِيكَ تَبْلَى، وَتَنْطَوِي تَحْتَ رَمْسِ
وَعَظَ (البُحْتُرِيَّ) إِيوَانُ (كِسْرَى)
وَشَفَتْنِي القُصُورُ مِنْ (عَبْدِ شَمْسِ) (2)
وفي قصيدةٍ أخرى من أندلسيَّات شوقي يَصِف حاله بالأندلس، ويتذكَّر في غربته أهل وطَنِه، وما لَهم من الشِّيَم والسِّمات التي يفتقدها في غربته، ويحنّ إليها، ويتذكَّر جمال مصر وما بِها من ملاعب وأرْبُع، لا يزال وهو في غربته يستروح هواءها وأجواءها، ويحنّ إليها، ويشتاق ما فيها من ذكيَّات عاطرة يُؤْنِسه تَذكّرها؛ يقول شوقي:
آهًا لَنَا نَازِحِي أَيْكٍ بِأَنْدَلُسٍ
وَإِنْ حَلَلْنَا رَفِيفًا مِنْ رَوَابِينَا
رَسْمٌ وَقَفْنَا عَلَى رَسْمِ الوَفَاءِ لَهُ
نَجِيشُ بِالدَّمْعِ، وَالإِجْلاَلُ يَثْنِينَا (3)
من هذا العرض السَّريع نجد أنَّ الكلام عن الغُرْبة والاغتِراب خطٌّ أصيل في خطوط الشِّعر العربي وأغراضه المتعدِّدة؛ ففي العصر النبويِّ شَهِدْنا حديثًا عن الغربة والاغتراب عند شعراء هذا العصر، ومَثَّل حسَّان بن ثابت بِمَراثيه للرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - جانبًا أصيلاً، ومَلْمحًا واضحًا في هذا السبيل.
كذلك وجدنا شعر الغربة على المستوى الفرديِّ في قصائد مالك بن الرَّيب التميميِّ وابن زُرَيق البغدادي وأبي فراس الحمدانيِّ، كما وجَدْنا ملمحَ الغربة والاغتراب واضحًا فيما سُمِّي بشِعْر رثاء المدُن في قصيدة أبي البقاء الرّندي في رثاء الأندلس ومَن سار على نهجه مِمَّن رثى المدُن والحواضر الإسلاميَّة التي تقع فريسةً في أيدي الأعداء؛ كما في مأساة قرطبة وما حدثَ للمدن الإسلاميَّة التي وقعَتْ تحت يد الصليبيِّين، كذلك تبدى ملمح الغربة في رثاء الشخصيَّات الإسلامية التي تُعقَد عليها الآمال كما في رثاء المتوكِّل للبحتري.
فإذا وصَلْنا إلى العصر الحديث نجد ملمحَ الحديث عن الغربة في شعر الباروديِّ في مَنْفاه، وفي أندَلُسيَّات شوقي التي كتبها وهو يُعاني آلام الغربة والنفي بالأندلس.
(1) (البارودي شاعر العصر الحديث): د. شوقي ضيف، ص (83 – 84).
(2) (الشوقيات): أحمد شوقي.
(3) المصدر نفسه.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى