العـقـوق

> رباب محمد فرحان

> صعدت الباص، تلفتت حولي بحثاً عن مقعد فاضي، وقد وجدته إلى جانب شيخ بدين حزين تملأ التجاعيد وجهه.. جلست إلى جانبه مطمئنة، متذكرة والدي الذي مات منذ عدة سنوات، و قد كان بالمناسبة يشبهه، بادرته بالسلام فرد بعبارة مقتضبة وصمتَ، فصمتُ أنا.
لحظات خلتها دهراً.. صمت رهيب رغم كل الضجيج من حولي، حركة السيارات وأصوات الناس المرتفعة، لم يكن في خلدي إلا ذاك العجوز الصامت الحزين، تمنيت أن أبادره بالكلام و لم أجرؤ.
وكانت المفاجأة، لقد بادرني هو بالحديث قائلاً لي: هل معك مائة ريال؟
استغربت من سؤاله، ولكني أجبته أن نعم.
فقال لي: أعطني إياها!!.
دون أدنى تردد فتحت حقيبتي وأعطيته ورقة النقد تلك، وكأني بتلك الحركة أخاطب والدي و أستعيد ذكرياتي معه.
وبمجرد أن أعطيته النقود انفرجت أساريره وابتسم لي ابتسامة عريضة تمنيت أن تستمر معه إلى الأبد.
ولكن تلك الابتسامة لم تستمر معه طويلاً للأسف، فقد عاد إلى وضعه الحزين السابق.. وفجأة وجدته يمد قبضة يده إليّ بقوة وعصبية.. قلقت ولكني لم أخف، ثم فتح قبضة يده فظهرت ورقة نقدية من فئة الألف ريال، وقد أشار إليّ أن آخذها فرفضت، ولكنه ألح عليّ قائلاً: إن لم تأخذيها سأرمي بها إلى الشارع، وأضاف لقد هممت فعلاً برميها لولا أن فكرت بمن يدفع لي أجرة الباص.
وفي هذه اللحظة انتابني شيء من الخوف، فربما كان الرجل معتوها، دارت عيناي في مقلتيهما بحثاً عن مكان آخر الجأ إليه، وكأنه كان يقرأ أفكاري ومخاوفي، فطمئنني بقوله: لا تخافي يا ابنتي أنا لست مجنوناً، وإنما أردت أن أتخلص من ورقة النقود الملعونة هذه.
فرددت: و لمّا تتخلص منها يا والدي؟.
فقال: إنها من ابني طلبت منه مبلغ لأذهب إلى طبيب القلب، ولكنه أعطاني ورقة النقود هذه، و قال لي: إنه لا يريد أن يرى صورتي مرة أخرى.. وانسكبت دموعه على خده دون أن يبكي، و بكيت أنا.. لم أستطع أن أتحمل، صحت بسائق الباص أن يتوقف، طبعت قبلة على جبين الشيخ مودعة، ونزلت قائلة له: إنها لا تموت الأجساد وإنما تموت الضمائر يا أبتي.
**رباب محمد فرحان/عدن**

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى