عيون المها

> الشاعر العباسي: علي بن الجهم

> هو أبو الحسن علي بن الجهم بن بدر القرشي السامي، ولد في نهاية القرن الثاني للهجرة؛ ويحكى عنه أنه عاش في شبابه في بيئة صحراوية قاسية، وعلى الرغم من الشاعرية الفذة التي تتأجج في صدره، فقد أثرت فيه حياة البادية العربية بمكوناتها ومفرداتها التي أثرت في طباعه واختياره ألفاظه، وعندما ضاقت به الحال وذهب إلى الخليفة العباسي المتوكل لينشده الشعر، دخل عليه وأنشده قائلا:
أنت كالكلب في حفظك للود
و كالتيس في قراع الخطوبِ
أنت كالدلو، لا عدمناك دلواً
من كبار الدلا، كبيرَ الذنوبِ
وهنا أجمع الحضور على ضربه، ولكن قال لهم المتوكل: أتركوه ! .. لقد عرف المتوكل قوة على بن الجهم الشعرية ومقصده من أبياته التي اكتسبها من بيئته، لذلك أصدر المتوكل أمرًا كسب منه على بن الجهم بيتًا في بستان قريب من الرصافة، وهي مدينة عند جسر بغداد غنية بحدائقها الخضراء اليانعة.
وبعد مدة وجيزة تأقلم علي بن الجهم على ذلك المكان، فدعاه المتوكل وجمع الناس، وقال لابن الجهم أنشدنا شعرًا؛ فأنشدهم قصيدة تعد أروع ما قاله، حتى قال عنها الشعراء، لو لم يكن لديه إلا هي تكفيه أن يكون أشعر الناس، وهي قصيدة من أرق الشعر وأعذبه والتي يقول مطلعها:
عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ
جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري
وعندما انتهى من قصيدته أصيب الجميع بالدهشة، فصاح المتوكل: “انظروا كيف تغيرت به الحال، والله خشيت عليه أن يذوب رقة ولطافة”.
وقصيدته هذه (عيون المها) تعد من أروع أشعار الحب عند العرب، وفيها يقول:
عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ
جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري
أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديمَ وَلَم أَكُن
سَلَوتُ وَلكِن زِدنَ جَمراً عَلى جَمرِ
أحينَ أزحنَ القَلبَ عَن مُستَقَرِّهِ
وَأَلهَبنَ ما بَينَ الجَوانِحِ وَالصَدرِ
صددنَ صدودَ الشاربِ الخمر عندما
روى نفسَهُ عن شربها خيفةَ السكرِ
خَليلَيَّ ما أَحلى الهَوى وَأَمَرَّهُ
وَأَعلَمَني بِالحُلوِ مِنهُ وَبِالمُرِّ
بِما بَينَنا مِن حُرمَةٍ هَل رَأَيتُما
أَرَقَّ مِنَ الشَكوى وَأَقسى مِنَ الهَجرِ
وَأَفضَحَ مِن عَينِ المُحِبِّ لِسِرِّهِ
وَلا سِيَّما إِن أَطلَقَت عَبرَةً تَجري
فَقالَت هُجينا قُلتُ قَد كانَ بَعضُ ما
ذَكَرتِ لَعَلَّ الشَرَّ يُدفَعُ بِالشَرِّ
فَقالَت كَأَنّي بِالقَوافي سَوائِراً
يَرِدنَ بِنا مِصراً وَيَصدُرنَ عَن مِصرِ
فَقُلتُ أَسَأتِ الظَنَّ بي لَستُ شاعِراً
وَإِن كانَ أَحياناً يَجيشُ بِهِ صَدري
صِلي وَاِسأَلي مَن شِئتِ يُخبِركِ أَنَّني
عَلى كُلِّ حالٍ نِعمَ مُستَودَعُ السِرِّ
وَما أَنا مِمَّن سارَ بِالشِعرِ ذِكرُهُ
وَلكِنَّ أَشعاري يُسَيِّرُها ذِكري
وَما الشِعرُ مِمّا أَستَظِلُّ بِظِلِّهِ
وَلا زادَني قَدراً وَلا حَطَّ مِن قَدري
وَلِلشِّعرِ أَتباعٌ كَثيرٌ وَلَم أَكُن
لَهُ تابِعاً في حالِ عُسرٍ وَلا يُسرِ
وَما كُلُّ مَن قادَ الجِيادَ يَسوسُها
وَلا كُلُّ مَن أَجرى يُقالُ لَهُ مُجري
وَلكِنَّ إِحسانَ الخَليفَةِ جَعفَرٍ
دَعاني إِلى ما قُلتُ فيهِ مِنَ الشِعرِ
فَسارَ مَسيرَ الشَمسِ في كُلِّ بَلدَةٍ
وَهَبَّ هُبوبَ الريحِ في البَرِّ وَالبَحرِ
وَفَرَّقَ شَملَ المالِ جودُ يَمينِهِ
عَلى أَنَّهُ أَبقى لَهُ أَحسَنَ الذِكرِ
وَلا يَجمَعُ الأَموالَ إِلّا لِبَذلِها
كَما لا يُساقُ الهَديُ إِلّا إِلى النَحرِ
وَلَو قُرِنَت بِالبَحرِ سَبعَةُ أَبحُرٍ
لَما بَلَغَت جَدوى أَنامِلِهِ العَشرِ
وَإِن ذُكِرَ المَجدُ القَديمُ فَإِنَّما
يَقُصُّ عَلَينا ما تَنَزَّلَ في الزُبرِ
فإن كان أمسى جعفرٌ متوكِّلاً
على الله في سرِّ الأمورِ وفي الجهرِ
**الشاعر العباسي: علي بن الجهم**

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى