لا يموتون ..! الذكرى الثانية لرحيل شيخ مفهرسي المخطوطات العربية الأستاذ عصام محمَّد الشَّنْطي

> د. سالم عبد الرب السلفي

> كان يسعل .. يسعل .. يسعل .. فنشفق عليه، ونومئ إليه أن يأذن لنا بأن نحضر له ماء، فيرفع يده عاليًا مشيرًا أنْ لا، فنبقى منتظرين نهاية نوبة السعال ليستأنف محاضرته.
كان يبدو وهو يسعل وكأنه في حال احتضار وصراع مع الموت، وكان يصرّ على أن يصارعه وحده، رافضًا مدَّ يد العون من أحد .. وكان يخرج من كل جولات الصراع التي شهدتُها بعيني، منتصرًا.
الجولة الأخيرة التي لم أشهدها، كانت بعد خمس سنوات ونصف، كانت الغلبة فيها للموت، كان ذلك في محافظة الإسماعيليَّة بجمهوريَّة مصر العربيَّة، في يوم السبت الفاتح من ديسمبر سنة 2012م.
رحل الأستاذ عصام الشَّنْطي بعد عمر حافل بخدمة التراث العربي المخطوط، تصويرًا وفهرسة وتحقيقًا وتدريسًا. وكنت قد تتلمذت عليه في (معهد المخطوطات العربيَّة) بالقاهرة، خلال الأعوام (2004-2006م) عندما جلست في مقاعد الدرس في مبنى المعهد في شارع (محيي الدين أبو العز) بالمهندسين بمحافظة الجيزة إحدى محافظات القاهرة الكبرى؛ للحصول على شهادة دبلوم الدراسات العليا في (علم المخطوطات وتحقيق النصوص).
**نبذة وجيزة:
ولد عصام محمد الشَّنْطي في أجواء سنة (1929م) في (قلقيلية) بفلسطين، وهناك تلقى تعليمه الأساسي، ثم التحق بجامعة القاهرة في قسم اللغة العربية بكلية الآداب، وحصل على درجة الليسانس سنة (1953م). عمل في إثر تخرُجه، في وزارة الشئون الاجتماعية الأردنية في بيت المقدس سنة (1954م)، ومنذ (1957م) عمل في التدريس بضع سنين في (معهد المعلمين العالي) بطرابلس الغرب. وفي سنة (1967م) حصل على دبلوم الدراسات العليا من (معهد البحوث والدراسات العربية) بالقاهرة، وكان أول دفعته.
ومنذ (1967م) عمل في (معهد المخطوطات العربية)، واستطاع أن يؤسس لمدرسة جديدة في فهرسة المخطوطات العربية. وقد تدرج في المسئوليات في المعهد حتى صار مديرًا ثانيًا لمعهد المخطوطات العربية. وفي سنة (1989م) بلغ السن القانونية، وبقي يعمل في المعهد خبيرًا متفرِّغًا وعضوًا في مجلسه الاستشاري، ثم مدرسًا في المعهد.
له عدد من الكتب، تنوعت بين التأليف وفهرسة المخطوطات وتحقيقها، منها: الجمالية والواقعية في نقدنا الأدبي الحديث، فهارس المخطوطات العربية المصورة (سلسلة من الكتب)، أدوات تحقيق النصوص، فصول في التراث المخطوط.
**الشَّنْطي واليمن الديمقراطية:
زار الأستاذ عصام الشَّنْطي جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية مرتين ضمن بعثتين لمعهد المخطوطات العربية بغرض تصوير مخطوطات، كانت الأولى في (فبراير – أبريل 1976م) تمَّ فيها تصوير (297) مخطوطًا، والثانية في (أكتوبر – ديسمبر 1982م) تمَّ فيها تصوير (394) مخطوطًا.
وقد كان يحدثني عن هاتين الرحلتين كلما جلسنا معًا، وكان كثيرًا ما يبدي إعجابه وتعجّبه من التجربة الفريدة في هذا البلد، فقد وجد فيها ما لم يجده في الدول الأخرى الكثيرة التي زارها، من تواضع مسئوليها الشديد، وكان يقول لي: كان تعاملهم وهيئتهم توحي لي بأني في مجتمع مثالي؛ إذ كان كبار المسئولين يستقبلونه شخصيًّا في المطار بملابس عادية وشباشب، ثم يحملون حقائبه ومعداته بأنفسهم!.
هذا السلوك المثالي لمسئولي البلاد افتقدناه بعد سنة (1990م)؛ فإن أبسط مسئول في زمننا هذا يتصرف وكأنَّه الحاكم بأمره بينما هو لا يرقى – نعم لا يرقى – إلى أن يكون بمستوى مسئول في دولة اليمن الجنوبي. وحتى لا أُتَّهم بالإجحاف سأقول: «إن هناك عددًا قليلاً جدًّا من مسئولي اليوم يمكن استثناؤهم من هذا الحكم».
وكان الأستاذ الشَّنْطي لا يذكر اليمن الجنوبي إلا ويذكر اثنين من أعلامه الراحلين بكثير من الود والاحترام، الأول هو الأستاذ عبد الله فاضل فارع (ت2008م) الذي زامله في تونس في الثمانينيات في أثناء العمل في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. والثاني هو الأستاذ علي عقيل بن يحيى (ت1987م) الذي التقى به في أثناء زيارته لليمن الجنوبي في البعثتين المذكورتين.
**داخل قاعة الدرس وخارجها:
كان الأستاذ عصام نحيفًا، برَّاق العينين، كثير الابتسام، ودودًا، في قاعة الدرس وخارجها، غير أنه في قاعة الدرس كان يميل إلى الصرامة، وربما احتدَّ أحيانًا. ولشمائله هذه كنا إذا وجدنا فرصة بين المحاضرات ذهبنا إلى غرفته نستفسره، وننهل من معارفه، ونفيد من خبراته، ونستحلب ذكرياته. وقد كان أكثر مدرس تردد علينا في سنتي الدراسة بمعهد المخطوطات إذ درَّسَنا ثلاثة مساقات.
وقد كان الأستاذ عصام صاحب نكتة، فلا تكاد تخلو جلسة من جلساته من نكتة، وأذكر أنني بعد أن أنهيت دراستي في مصر وعدت إلى عدن في (نوفمبر 2006م) عدت إلى مصر ثانية في (مايو 2007م) لاستخراج شهادة الدكتوراه الكرتونية من معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة، فقررت أن أزوره فزرته وعزمته إلى المطعم اليمني في (الدقي) على وجبة غداء بصحبة الصديقين العزيزين الدكتور علي الكهالي والدكتور فهمي حسن قبل أن (يتدكترا)، وفي أثناء الأكل جئنا بعلب (ببسي)، فأتحفنا بنكتة حول (الببسي) لا يزال الدكتور فهمي يذكرها بتفاصيلها إلى اليوم، قال: اشتد الصراع في خمسينيات القرن الماضي بين شركتي (ببسي كولا) و(كوكا كولا)، فبثت شركة (كوكا كولا) إشاعة أن شراب الببسي تدخل في مكوناته مواد مصنوعة من أحشاء الخنزير، فاحتجت شركة (ببسي) ولجأت إلى شيخ الأزهر ليتدخل ويصدر فتوى في الأمر، فوجه شيخ الأزهر بالتأكد من ذلك مخبريًّا فجاء التقرير بأن الببسي خالية من مكونات الخنزير، فاغتاظت شركة (كوكا) وبثت إشاعة أخرى مفادها أن شيخ الأزهر استلم رشوة من شركة (ببسي) ليصدر فتواه بحلِّية شرب الببسي، وأمعنت الإشاعة في الكذب بأن شيخ الأزهر إذا أمَّ الناس كبَّر وقال: ببسي الله الرحمن الرحيم! .. ضحكنا معًا، ولكن ضحكة الأستاذ عصام كانت مميزة لأنها كانت من جهة الشكل تشبه نوبات السعال التي ابتدأنا بها هذا المقال، لكن من جهة المضمون كان هناك فرق بينهما هو الفرق بين الموت والحياة! .. رحمة الله عليك أستاذي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى