شعراء في غياهب السجون

> مصطفى قاسم عباس

> لمْ تَخْلُ السجونُ يومًا من الأيام من ضيفٍ يحل بها، أو مقيمٍ يعيش بين حناياها، ولا يخرجه منها إلا الموت!؛ ومن المعلوم أن السجنَ يغصّ بأصناف شتى من البشر، وأن السجن قد يحوي البريءَ المظلومَ، ويحوي السارقَ والقاتل والمجرمَ وقاطعَ الطريق.. وكم من مجرم يدَّعي أنه بريء! وكم من بريءٍ أصبح يُسَمَّى مجرمًا، وعلى كل حال:
ما يدخل السجنَ إنسانُ فتسألُه ** ما بال سجنك؟ إلا قال: مظلومُ!.
كما أن السجن قد يحوي بين جدرانه الرسولَ والنبيَّ، والعالم والأميَّ، والكاتب والشاعر، والتقيَّ والفاجر.. وما أكثر الشعراءَ الذين حُبسوا!، وما أكثر الأشعار التي قيلت في السجون!، فبددت بنور توهجها ظلامَ السجون الدامسَ، وتنسمت قوافي تلك الأشعار نسائمَ الحرية، وخرجت من غياهب السجون ودياجيرها، لتصبح تاجًا مرصَّعًا على هامة الخلود، وقلادةً حرةً في صدر الزمان.
ويبقى العجب: كيف تضم حجرةٌ مظلمة صغيرة بحورًا لُجِّيَّةً من الشعر، وجبالاً تطاول عَنان السماء، من العلماء والحكماء! ولاغروَ ولا عجب، فالسجنُ الذي ضمَّ نبيًا ورسولاً، يضم عالماً وشاعرًا وحكيمًا.
ويظل السجينُ على أمل اللقاء مع الأهل والأحبة، فالذي ردَّ يوسف إلى أبيه، وأعزَّه - وهو في سجنه - قادرٌ على أن يجمعَ السجين بأهله، ويلمَّ الشملَ، ما لم تعاجلْه المنيةُ وهو في أعماق الأرض، فينتقل من أعماق زنزانته، ويوضع في أعماق الثرى داخل قبره! ورحم الله من قال:
وعسى الذي أهدى ليوسُفَ أهلَه ** وأعزَّه في السجنِ وهْوَ أسيرُ
أنْ يستجيبَ لنا فيجمعَ شملنا ** واللهُ رب العالمين قديرُ
ونحن عندما نتحدث عن الشعراءِ وقصائدهم التي دبَّجوها في غياهب السجون، لا بد أن نتذكر جميعًا قصيدةَ أبي فراس الحمْداني الرائعةَ، التي قالها عندما كان أسيرًا، وسمعَ حمامةً تنوح على شجرة عالية بقربه، فأراد منها أن تشاركَه في أحزانه، وتحملَ عنه بعضَ الهموم، فقال يخاطبها، وهو في سجنه:
أقولُ وقد ناحت بقربي حمامةٌ ** أيا جارتا، هل بات حالك حالي؟
أتحملُ محزونَ الفؤادِ قوادمٌ ** على غصُنٍ نائي المسافةِ عالِ
أَجارتَنا، ما أنصف الدهرُ بيننا ** تعالَي أقاسمْكِ الهمومَ تعالِي
تعالَي ترَيْ روحًا لديّ ضعيفةً ** تردَّدُ في جسمٍ يعذَّبُ بالِ
وكم من أبياتٍ أخرجت صاحبَها من السجن!، وما ذلك إلا لرقتها وعذوبتها، فترى القوافيَ فيها تبكي، ودموعَ سامعها تهمي، وقلبه يذوب لينًا وعطفًا، ومعلومةٌ تلك الأبياتُ التي جعلت الشاعر الحطيئةَ يخرج من سجنه، والتي قالها لسيدنا عمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه - عندما أودعه في السجن:
ماذا تقولُ لأفراخٍ بذي مَرَخٍ؟ ** زغبِ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شجرُ؟
ألقيتَ كاسِبَهُم في قعرِ مظلمةٍ ** فاغفر، عليك سلامُ اللهِ يا عُمَرُ
أنت الإمامُ الذي مِن بَعد صاحبِهِ ** ألقتْ إليكَ مقاليدَ النبي البشَرُ
لم يؤْثروك بها إذ قدَّموكَ لها ** لكِنْ لأنفسِهم كانتْ بكَ الإثرُ
فامننْ على صبيةٍ في الرملِ مَسكنُهُم ** بين الأباطحِ يغشاهمْ بها القَدرُ
أهلي فداؤكَ، كم بينيْ وبينهمُ ** مِن عرضِ داويةٍ يعمَى بها الخبرُ!
فبكى عمرُ رضي الله عنه، وأخرجه من السجن، ثم دعاه فهدّدَه بقطع لسانه إنْ عاد يهجو أحدًا.
وكتب الشاعر ابنُ عمارٍ عندما حبسه المعتمدُ بنُ عباد إليه الكثيرَ من قصائد الاستعطاف، وطلبِ العفو، وإليك هذه الأبياتِ من آخر قصيدة بعث بها إليه كما يقال:
سجاياكَ إنْ عافيتَ أندَى وأَسْمَحُ ** وعذرك إن عاقبت أولى وأوضحُ
وإن كان بين الخطّتينِ مَزيةٌ ** فأنت مِن الأَدنى إلى الله أجنحُ
ولكنْ، إذا كان الحطيئةُ قد استطاع أن يُبْكيَ سيدَنا عمرَ بتلك الأبيات، فإن ابنَ عمار لم يفلح في نيل رضا المعتمد، بل شجَّ رأسه بفأس وقضى عليه، وكأنّ المعتمد ما نسي هجاءَ الشاعر له ولزوجته وكما قيل:
جراحاتُ السِّنانِ لها التِئامٌ ** ولا يلْتَامُ ما جرحَ اللِّسانُ
وقد أورد البغدادي في خزانته أبياتَ شعرٍ لجَعْفَر بن عُلْبَة الحارِثِيّ قالها في سجنه، وأوردها أبو تمام في أول الحماسة، وهي في غاية الروعة:
هَوايَ مع الرَّكْبِ اليَمانِينَ مُصْعِدٌ ** جَنِيبٌ وجُثْمانِي بمَكَّةَ مُوثَقُ
عَجِبْتُ لِمَسْراها وأَنَّى تَخَلصَتْ ** إِليَّ، وبابُ السَّجْنِ دُونِي مُغْلَقُ
وعندما حُبس عبدُالملك بنُ إدريس الجزيريُ الكاتبُ الشاعرُ، صدرت عنه وهو في السجن قصيدةٌ له في الآداب والسنة، كتبَ بها إلى بنيه (أو إلى ابنه عبدِ الرحمن)، مطلعُها:
ألْوَى بعزمِ تجلدي وتصبري ** نأيُ الأحبّةِ واعتيادُ تذكرِي
ويذكر فيها كيف فقد صبرَه، وذهب سرورُه وتلذذُهُ بالعيش، ويتشوقُ إلى ابنِه الأصغرِ، ويتذكر ساعة فراقه، فيقول:
عجبًا لقلبي يومَ راعتْنا النّوى ** ودَنا وداعُكَ كيفَ لم يتفطرِ؟!
ما خِلْتُني أبقى خلافَك ساعةً ** لولا السكونُ إلى أخيكَ الأكبَرِ
وأما صالحُ ابنُ عبد القدوس، فإنه يشكو حاله إلى الله، ويرى نفسه في سجنه لا حيًا ولا ميْتًا: إلى الله أشكوْ؛ إنّه موضعُ الشّكوَى ** وفي يدِهِ كشْفُ المُصيبةِ والبَلْوَى
خرجْنا مِن الدّنيا ونحنُ مِنَ أهلها ** فما نحنُ بالأحْياءِ فيها ولاَ المَوتى

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى